صدقا يا صديقي عبدالله ليست لي رغبة في الكتابة عن بختي بن عودة الراحل، وبختي بن عودة الكاتب الحداثي الرائي، وبختي بن عودة رفيق المجالس والندوات والشوارع والمقاهي في وهران· إنها نافذة أغلقتها بالإسمنت المسلح ودهنتها بدهن الجدار نفسه لأوهم نفسي أن لا نافذة كانت هنا يوما· أفعل ذلك خوفا من أن تتحول النافذة إلى فوهة ذكريات حادة كالخنجر وناعمة كالخنجر ودموية كالخنجر· إن مجرد إحداث ثقب صغير فيها سيكلفني إعادة بنائها من جديد، وسيأخذ مني ذلك طمأنينة الغفلة التي ركحتُ إليها وفي ركنها الأبعد نصبتُ لي خيمة النسيان· ها هو وجه بختي يبتسم قادما من آخر الشارع، يبدو أنه يخفي أخبارا طيبة، يصل بختي، نتصافح، ونمشي مع الماشين في شارع العربي بن مهيدي، لكن بختي لا يتحدث عن أي أخبار طيبة، لقد كان يبتسم لأن تلك تحيته· تذكر جيدا يا عبدالله صبيحة دخلنا إلى جناح الموتى في مستشفى وهران، لم يكن الموتى هم الآخرين البعداء الأغراب، لقد كان بينهم بختي نائما على نقالة كانت على أرضية القاعة· كان يبدو نائما، جميع ملامحه كما هي تماما، لكنه لا يسمعنا، كنا في حاجة إلى معجزة ليخرج معنا إلى شوارع وهران، لكننا كنا أضعف من خيط العنكبوت أمام الموت، فخرجنا مذلولين أمام غياب المعجزة، تركناه مثل جبانين على تلك النقالة نائما، وخرجنا إلى المدينة· حين يداهمني وجه بختي، يداهمني وجه جمال زعيتر، الذي أخجل من ذكره على عجل، لأنه أهل لحديث طويل سيكون شديد الحضور في الجزء الثاني من كتابي القبشا· وحين أذكرهما أذكر عمار بلحسن، وأذكر وهران التي لم تغب عن ذاكرتي يوما منذ 12 سنة في منفاي الإختياري· أشعر أني أحتاج إلى هاوية سحيقة حتى أتحدث عن وجه بختي وقلم بختي ومكتبة بختي وغرفة بختي في بيته العائلي· كنا نختلف ونشعل للنميمة فتيلتها، وكنا نعبث ونصرخ عاليا في الشارع ليلا، كنا نحب الحياة، ونحب الكتابة، ونحب الانزلاق على قشرة الوهم، ونحب اللعب، إنها مدرسة وهران التي لا مساطر فيها ولا سبورات ولا أساتذة ولا مراقب عام ولا جدران، مدرسة الشعر والليل والحياة والتسكع والبحث عن المعرفي الحاد المختلف· في تلك المدرسة تخرج بختي مبكرا بصفة تلميذ نجيب، رحمه الله رحمة واسعة، لقد كنا سعداء به، وترك غيابه فينا قصاصات ورق وغصّات ودموع خفية تنهش لحم النخلة قليلا قليلا، والعابرون يبتسمون لقامة النخلة غير مدركين لمعاناتها الأعلى والأفدح· إن كتاب الموت، الأصدقاء، الإرهاب، يحتاج إلى أسراب من طيور تحترق، وإلى أن نموت كثيرا وعميقا في الكتابة والتجريب علنا نسطر أحرفه الأولى من أجل أن يبتسم القادمون ويفعلون ما يجعل الحياة الجزائرية قابلة للتعامل معها·