لتعريف ''المشهد الثقافي'' سوف أعتمد على مدخل سوسيولوجي بسيط وذكي جدَّا، جاء في تعريف الثقافة، لعالِم الاجتماع الجزائري، وادي بوزار: ''الثقافة ليست في الطبيعة· الثقافة ليست في الزهرة· الثقافة متواجدة في حركتنا على الطبيعة ورؤيتنا للزهرة'' والمشهدُ الثقافي، حسب رؤيتنا الخاصة، يتأثّثُ حمتا من تعريفنا وفهمنا لنوعية ارتباطنا(علاقتنا) بالطبيعة التي تحيط بنا· لا تحمل الطبيعة أية ثقافة، مهما كان نوعها· تهوى الطبيعة ممارسة لعبة العقر أمام المعنى· وحدها الثقافة تكفلُ للإنسان قوّة اختراق ذلك العقر وإضفاء المعنى· ووحدها الثقافة النقدية تكفلُ للإنسان قوّة تجديد معنى الحياة· فتغدو الصخرة التي تتأبى أمام المعنى، بشرية كانت أو جمادا، حمّالة حياة وجمال، وربما أيضا حمالة موتٍ وفناء! ··· أي أن ديناميكا اللاّحراك، تخرج عن صمتها وتأخذ معنى لها عبر تبنيها للحركية، فتخلق أو تُبدع بذلك كرونولوجيا التمايز، في شكل زهرة بريّة مسلّحة بأشواكَ تدافع بها عن نفسها من تأويلات المثاقفة، وتطرح للمؤوِّل أيضا مراوغات لا نهائية من الفتوحات والخروقات والتفكيكات والبنى والمعاني التي تضمن لها إمكانية مواصلة الحياة، وفي نفس الوقت إمكانية حدّها والقضاء عليها· كل الاحتمالات واردة في لغة ''الطبيعة والزّهرة''· لم تتفق أية ثقافة أو حضارة عبر مرِّ العصور على تعريف صريح للطبيعة: حسب آرثر لوفغوي Arthur Lovejoy هناك أكثر من ستة وستين تعريفا للطبيعة· فالمعنى الزئبقي الذي تحمله الطبيعة يستمدُّ حياته من لزوجة جوهر الطبيعة البشرية الذي لا يمكن اختزاله ضمن قمقم أية منظومة أخلاقية أو قانونية إلاّ نسبيا· ولذلك فإن الإنسان العادي محكوم من قبل تينك المنظومتين اللتين تجسدان معناهما المادي عبر خضوعه· ولذلك أيضا فإن المُبدع أو المجهَّز بثقافة النقد لا يمكن له إلاّ أن يدخل في مجابهة مستمرّة مع تينك المنظومتين، مدفوعا بالقناعة والالتزام الصارمين بلزوجة الطبيعة، وباستحالة إخضاعها لأي نوع شُرطي يقضي عليها ويغمرها باليباس· هذه هي ميكانيزما السياسة الداخلية ل ''المعنى'' التي تتشكلّ دوما من معنى محافظ، ومعنى مجدّد· ربما نستطيع اختزال ذلك عبر كلمة أدونيس بأن ''المعنى هو أمام الإنسان''·· وأما طبيعة الكتابة المُبِدعة، فإنها تأخذ معناها الواسع من وحدانية الفعل، أكثر ممّا تأخذه من اشتراكيته· ولذلك لا يمكن تحديد عوالم فعل الكتابة إلاّ بشكل مقارَب أو تأويلي غير إلزامي· وكذلك هو الحال مع باقي الفنون· ؟؟؟ فالخطاب التوجيهي أو التخطيط الذي من شأنه أن يجنّد - يعبئ - سوسيولوجيا الرأي العام من أجل الحكم على النتاج الفني، هو خطابٌ مصلحاتي يقوم ضدّ المنطق الفني الذي تشارك في رسمه ثلاثة محاور، هي: الطبيعة والمعنى والمُنتَج الفني· وكما حاولنا الاقتراب من طبيعة الطبيعة، ولزوجة المعنى الذي يتأتى من ذلك، ونوعية المُنتَج، فإننا، وبحكم تفاعلنا وسط مجتمع لم ينل حظّه بعد من التوازن بين المُتبنّى المادي والمكسَب الذهني، نستطيع أن نحكم على طبيعة وشكل وظروف تواجد الإنسان الممتهن لرسالة المثاقفة، على اختلاف أنواعها في هذا المجتمع بيُسر· فمن جهة، هناك أولا غياب البعد التصوّري لمفهوم الطبيعة عن ذهنية الناشئة، وبالتالي عن ذهنية المجتمع الذي يحمل مسؤوليات بيولوجية، باستطاعتها أن تؤثّر سلبا على كل طاقة مبدعة قد تقع تحت مسؤوليتها· فلا زالت بعدُ الكثير من الدول العربية بلا أية تنشئة فلسفية· ولا زالت حتى جامعاتها تحرّم تدريس الفلسفة !· من أين إذن للتجمعات السوسيولوجية أن تأخذ معايير الحكم على الفعل الإبداعي؟ وأمّا الدول الأخرى التي تجذر فيها التدريس الفلسفي، فإنها لا زالت بعد تعاني من وطأة نوع من الرباط غير التوافقي بين الفكرة ضمن مرجعيتها المنهجية وظروفها الميلادية، والفكرة في شكلها المطبَّق· من هنا، كما ذكرت أعلاه، يمكن لنا تفهّم ظروف الخلق الإبداعي في هذه المجتمعات التي تصرّ على أن تبقى حديثة النشأة، برغبتها الجاهلة في اختزال المعنى، متعذرة دوما بعامل الزمن الجامد الذي يسكن ذاكرة غبية تصرُّ على التخلُّف أو كما يقول أفلاطون : ''الزمن المتحرّك في الذاكرة الجامدة'' ·Dans la mémoire immobile Le temps mobile من هنا أيضا، يبدو فعل اشتراكية النشاط الثقافي، بمثابة التجمُّع الهائل لقوى التجهيل التي تتكاثف فيما بينها من أجل مداهنة السلطة المركزية في هذه الدول المتخلّفة - المسؤول المباشر عن عملية التخلُّف ·- *** من عادة الصوت المفرد أن يغيب في غيهب تعالي الأصوات· ولأنّ، أخلاقيات حماية الصوتَ المفرد، لم يُسمح بها بعدُ في مجتمعات التوّحُش السياسي والأخلاقيات المتعالية، فإنّ أي تجمُّع من شأنه أن يُسكِنَ صوت التفرُّد، فاتحا المجال أمام تجمع أصداء الفراغ، أكثر ممّا يمنحه من تجمُّع لمقامات الملء· قليلة هي التجمُعات الثقافية التي أسّست متنفّسا للصوت المنفرد في تاريخ الفنّ، ومن كان لها ميزة ذلك البناء، فإنها استمدّت تعاليمه وتصوراته من الجهد الفردي الخالص الذي امتدّ فيما بعد عبر المريدين والمحبّين والتابعين· وبطبيعة الحال، فإن رخصة إثبات الوجود، تتطلّب دوما ممهدّات نفسية وفراغات أو توسُّعات وتمدُّدات Dilatations قانونية، واستعدادات مادية قد تحتّمها ظروف المجابهة· هذه ضروريات حضارية، تتطلّبُها شروط الإبداع الحرّ· ولذلك لا يمكن للفعل الجماعي إبداعيا أن ينجح دون نجاح فعل الإبداع الفردي أولا· كل المعايير الثقافية التي تستعمل مفهومنا أو تصوُّرنا للثقافة الحديثة، تشير دون وازع شكّ إلى الوجه البائس الذي تعكسه الثقافة العربية اليوم، وإلى محدودية قوّة الخطابات التحريرية على إضفاء دعائم مقنعة سوسيولوجيا، وإلى ندرة - بل انقراض- العامل الثقافي في التأثير على مصير الشعوب العربية، وعلى تواطؤ منظمات التجمُّع الثقافية مع السيطرة المركزية أكثر من وقوفها كضدّ مصحّح ومقرّر· لذلك فإنني لست مقتنعا حتى السّاعة بالفعل الجماعي وسط مجتمعات كهذه فقيرة إنسانيا، ومتواطئة وتعيش على وهم الأخطاء الشائعة، بقدر إيماني بالتأسيس الفرداني للفعل الثقافي الذي يصارع كل تلك الوقائع التعسفية المفروضة، في انتظار انبلاج كرونولوجيا الحقيقة التي يكون بإمكانها طرد غمامة الوهم الذي تعيش عليه الثقافة العربية منذ أكثر من خمسة قرون· لا يمكنني أن أؤكد على تمايز المشهد الثقافي الجزائري عمّا يحدث عربيا، ولكن بحكم زيارتي لبعض الدول العربية ووقوفي على سياساتها الثقافية، أستطيع أن أصرّح بأننا نتأرجح بين من يتنفّسُ ثقافيا بصعوبة، وبين من يلفظُ أنفاسه الأخيرة ملفّعا بالقليل القليل من الأمل··· ليس إلاّ!