وصلت مطار هواري بومدين الدولي في منتصف النهار، كان الطريق إلى المطار خاويا من الزحمة القاتلة بسبب العطلة الأسبوعية وشهر رمضان المعظم، جئت مودعا زوجة صديقي الفنان التشكيلي بشير بلونيس، السيدة الفنانة الياسمين والمتوجهة إلى موريال- كندا، وهو منفى آخر اختارته لها ولابنتيها: أصيلة وإيمان، بعدما ضاقت بهن سبل الحياة في عنابة بعد رحيل بشير إلى مثواه الأخير منذ سبع سنوات. قال لي سائق الأجرة الذي يشتغل على خط فندق السفير والمطار حين تبادلنا أطراف الحديث عن الوداع: أنا لا أحتمل الوداع، كلما رأيت طقوس المودعين الباكين أهرب بعيدا عن الموقف حتى لا يوجعني قلبي·· وأبكي.. ذكرت في هذا المقام ما كتبته الأديبة السورية غادة السمان في إحدى أعمدتها بمجلة الحوادث اللبنانية، تصف حالتها حين كانت تنتظر وصول أحد أصدقائها العائدين من السفر في إحدى المطارات العربية، حيث انخرطت بدون وعي في متاهات الوداع لأناس لا تعرفهم وصارت تبكي بحرقة، وحين وصل العائد، وجدها غارقة في دموعها: سألها مذهولا: هل حدث لك مكروها، أجابته بنفي: لا·· إنني أودع. عرفت طعم الوداع المرّ هذا اليوم الرمضاني في عيون العائدين إلى منفاهم.. في زغاريد النساء.. في حضن الأطفال.. قليلا ما تجد رجلا يبكي رغم أنني جارح كالوردة وسريع البكاء، إلى درجة ينعتني فيها أبي كلما شاهدني في مواقف مشابهة: إنك تشبه أمك.. هل الدمعة صارت قدرا وحكرا على المرأة فقط؟ وهل الوداع اسمه امرأة؟ الأطفال يكسرون سمفونية الدمع بصراخهم وصيحاتهم الصبيانية. تحول المصعد الأوتوماتيكي مصيدة للعب، فهم ينزلون عكس خط سيره الكل ينزل.. وهناك من يصعد ويحدق في النوافذ والوجوه.. قافلة من المضيفات - وهن مزيج بين العنصر الآسيوي والأوربي - للخطوط الجوية القطرية يبتسمن كدمى ويحدقن في كل شيء و لا شيء.. طفلة تسقط إحدى الإشارات الإشهارية الحديدية، يحدث دويا هائلا، المرأة الجالسة إلى جانبها تصرخ صرخة مفزعة ثم تضع يدها على فمها خوفا وخجلا. يهرع رجلان لمساعدة الطفلة المصعوقة غير القادرة على البكاء، تحدق فيهما بدهشة، تمد لهما يدها، تنهض، ثم تهرع إلى أمها.. يبتسمان.. ثم يشرعان في تصليح الإشارة مباشرة وأنا أقطع أرضية المطار المصقولة في انتظار وصول السيدة الياسمين تسقط علبة زجاجية لمشروب أحمر، وتتحطم ويتناثر زجاجها ويتدفق السائل الأحمر على المساحة البراقة للمطار، كأنه دم ينزل من مكان ما يهرب من كان حولها.. تجلس أمام الحطام وحيدة وحائرة اقتربت منها·· أمد يدي لأساعدها على الوقوف وأشرع في جمع الزجاج المتناثر، ثم أخرج جريدة من محفظتي وأمسح بها السائل الدموي.. كانت المرأة خائفة ومفجوعة.. قالت لي: بارك الله فيك يا ابني هو دوائي ضد الحساسية.. حين وصل أعوان النظافة للمطار نات كوم غادرت الموقع.. وفي منتصف المطار قرب الباب الخارجي هناك من يأخذ صورا تذكارية بالهواتف النقالة وآلات التصوير، خاصة لقوافل المعتمرين المتجهين إلى البقاع المقدسة.. ثياب بيضاء وأيادي تلوح بالوداع هناك من يقرأ الجرائد.. هناك من ينام على المقاعد.. هناك المهرولون.. هناك من يقرأ الإشارات الإشهارية.. وهناك من يشتري التمور الجزائرية والجرائد والكتب.. هناك من ينتظر.. هناك من يهتف.. رحلات قادمة ورحلات منطلقة حركة لا تتوقف أخيرا وصلت السيدة بلونيس مرفقة بأخيها محمد وزوجته نسيمة، وجدتني حزينا.. ضحكت وقالت لي: أعتقد أن رمضان أتعبك وأتعبتك أنا أيضا معي.. قلت لها مغيرا سياق الحديث: إنك وصلت في الوقت المناسب·· التسجيل بدأ منذ 20 دقيقة.. ولم أخبرها أن وحش الوداع هو الذي افترس ونخر قلبي ربما سأخفف عنه قليلا.. لأنني مدعو للإفطار عند أستاذي الرائع محافظ المهرجان الدولي للمسرح الباحث ابراهيم نوال صاحب البيت المتحف والقلب الكبير.. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته