نفذت واشنطن مضمون الإتفاق الذي صاغته مع السلطات العراقية وسحبت أواخر شهر أوت 2010 قواتها من العراق، تاركة فيه 50 ألف جندي سيمكثون في قواعد محايدة ولا يتدخلون إلا عند الضرورة القصوى·ولقد جاء الانسحاب في وقت تزداد فيه أزمة تشكيل حكومة في العراق رغم انتخابات تشريعية جرت منذ ثلاثة أشهر، وفي وقت يرتفع فيه منسوب التوتر الأمني، حيث تجري يومياً عمليات تفجير ومواجهات وتصفيات واغتيالات· وكان الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش قد وعد قبل احتلال العراق بأنه سيحرر هذا البلد من نظامه ''الديكتاتوري'' وسيكرس الحرية والديمقراطية والسلام، ولكن أياً من هذه الشعارات لم تتحقق رغم بقاء القوات الأمريكية زهاء السبع سنوات في العراق· ورغم إمساك واشنطن بكل مفاصل البلاد السياسية والاقتصادية والأمنية، حيث كان ينتشر على أرض العراق نحو 160 ألف جندي مزودين بأحدث أنواع الأسلحة والتقنيات المتطورة· والذي حصل أن العراق تحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات بين أطراف داخلية وكذلك بين قوى إقليمية ودولية، الأمر الذي أحدث أزمة اقتصادية خانقة في البلاد رغم غنائها بمادة النفط، وتسبب بتوتير أمني متصاعد أخذ أبعاداً طائفية ومذهبية في بعض نواحيه، وخلق شرخاً كبيراً بين قواه السياسية إلى حد لا يستطيع العراقيون الآن من تشكيل حكومة تدير شؤون البلاد والعباد، وخيم في الأجواء شبح التقسيم حيث يكثر الحديث عن إمكانية قيام فدراليات إثنية أو دويلات طائفية· إزاء ذلك لم يكن أمام الأمريكيين إلا الانسحاب ليس من منطلق حرصهم على ألا يكونوا قوات احتلال بل لأن الخسائر التي تكبدوها كانت مرهقة، حيث خسرت أمريكا طيلة سنوات احتلالها للعراق نحو 4500 قتيل و32 ألف جريح، وكلفة حرب وصلت إلى نحو 750 مليار دولار بعد أن كانت التقديرات تتحدث عن كلفة تتراوح في حدها الأقصى ما بين 50 و60 مليار دولار· وكان لزاماً على الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يتقيد بمضمون اتفاقية الانسحاب من العراق التي سبق ووقعها سلفه جورج بوش لأن الخسائر البشرية باتت تشكل أزمة اجتماعية داخل الولايات المتحدة· ولأن حجم الخسائر المادية بات يرهق الموازنة التي تعاني من تداعيات الأزمة المالية العالمية التي أصابت أمريكا منذ أكثر من سنة، يضاف إلى ذلك أن الرئيس أوباما أراد أن يستثمر الانسحاب في الانتخابات النصفية بعد أن تدنت شعبيته نتيجة كثرة الوعود التي أطلقها أثناء حملته الانتخابية، وقلة الإنجازات التي حققها منذ تسلمه مقاليد الحكم· والمؤسف أن السلطات العراقية قد أعدت نفسها بشكل سيء لاستلام مهام الأمن والإدارة في البلاد، حيث أنشأت جيشاً ضعيف التدريب وعديم الخبرة، وشرطة تنتمي إلى الميليشيات، وأجهزة رسمية يعمها الفساد· ومن الصعب التأمل بإمكانية خروج العراق من النفق المظلم في المدى المنظور لأنه بنظر الأحزاب والتنظيمات والتكتلات الناشطة فيه كناية عن قطعة جبنة يريد الجميع أن ينال حصته منها دون أدنى اهتمام بما يهدد العراق من مخاطر وتحديات· رئيس مركز الدراسات العربي الأوروبي