عنوان ''شجاعة الحقيقة'' جاءني فجأة لدى قراءاتي لمحاضرات ميشال فوكو في الكوليج دو فرانس، وكخاتمة تفاؤل أو تشاؤم حول مستقبل الفكر وعلاقتنا بالوجود والتاريخ والسياسة والذات والآخر· ولعلّ الراحل محمد أركون الذي سار على خطى فوكو في قراءة التاريخ العربي والإسلامي بهويّاته المتعدّدة ومذاهبه المختلفة في السياسة والدين واللغة، كان على وعي بمغامراته التقنية والتأويلية في الدروب الوعرة والمسالك الشائكة· ينبغي شجاعة جبّارة في تحريك البنيات الثابتة التي تحنّطت تحت وطأة التاريخ وعلاقات القوّة وتوزيع السلطات· لا يهمّ إذا كانت المعركة ناجحة أو خاسرة، لكن ما يهمّ هو الإنخراط فيها بكل القوى المواتية والوسائل المتاحة لتبيان أنّ وجودنا التاريخي هو أوسع من أن ينحصر في تعاليم أو كتب مدرسية، ووجودنا الإجتماعي أوسع من أن ينغلق في رؤية أو سياسة، ووجودنا الثقافي والفكري أغنى من أن يشبه هذا المذهب أو ذاك المشرب· لقد عمل الراحل أركون على توسيع الآفاق النظرية والعملية والتحذير من التضييق الآني والفوري على حركة المجتمع والسلوك والرؤية، لأنّ في ذلك موت المجتمع بالذات، أي موته الزمني واكتفاؤه بذاته والدوران على رحى الابتذال دون أفق أو محفّز أو إرادة في المعرفة والحقيقة· كما أنّه قام باستثمار الأساليب الفكرية والنظرية المتاحة، بوصفها مفاتيح في النقد والمعالجة، لقراءة ما يمكن قراءته وتجديد ما يمكن تجديده، والوقوف على ما يستعصي على النظر والفهم· لم تكن المهامّ سهلة، لاعتبارات آنية (سياسية أو مذهبية) ولكن الانخراط في هذا العمل من شأنه أن يكون المحفّز لمغامرات أخرى واعدة· والانخراط في هذا النشاط كان أيضاً بمثابة الإلحاح الراهن والعصري في تثوير الفكر والثقافة والتصوّر وتطويرها· أمام شجاعة الحقيقة، ليس أركون في ''نقد العقل الإسلامي'' استثناءا عن القاعدة· تحضرني أيضاً شخصية اليسوعي والمؤرّخ ميشال دو سارتو الذي عمل هو الآخر على ''نقد العقل المسيحي'' ونقل التراث الديني من منغلقه الدوغمائي والتعبّدي إلى منفتحه العلماني والمدني· وما يعمل به أيضا جان دانيال، وليد الجزائر أيضاً، في ''نقد العقل اليهودي'' عبر كتاباته الصحفية والإعلامية، لأنّ شجاعة الحقيقة تقتضي وضع الذات على محكّ التساؤل (الإشكاليات الممكن طرحها، المعضلات الواجب معالجتها) والمساءلة (الآليات الممكن استعمالها، الوثائق التاريخية والحضارية الواجب نقدها واستثمارها)· بدون النقد (كفرجة أو نافذة نحو العالم الخارجي) تتصلّب البنيات والأنساق (أيّا كانت طبيعتها: سياسية، دينية، ثقافية، تكنولوجية··) وتصبح مجرّد أدوات في التسلّط ومراسيم في التبرير· ناضل أركون ضدّ هذه الصورة المعتمة والصلبة ليعيد للفكر حيويته وعنفوانه، وللثقافة تنويعها، وللهوية جذورها وتعدديتها، وللدين ''بسطه'' عوض ''قبضه'' (كما ذهب عبد الكريم سوروش) وللغة انفتاحها واختلاف مصادرها، وللماضي تحرّره من وصاية الحاضر واستعمالاته الإيديولوجية من أجل المصالح الآنية لأشخاص أو طبقات· لا شكّ أنّ البرنامج النقدي مشحون بالإرادة وبوفرة الميادين المراد معالجتها وتعقيدها، ولكن ''شجاعة الحقيقة'' تتطلّب التأنّي والصبر والحكمة والعمل الدؤوب من أجل ما أسّميه بذكاء الفكر في مواجهة صبيانية العواطف والانتماءات·