إذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو من أجبر الرئيس حسني مبارك على مغادرة السلطة، فنحن أمام عهد جديد من الانقلابات العسكرية التي يجوز وصفها بالشرعية· ولعلها المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي تبارك فيها مجموعة الدول الكبرى (الديمقراطية) انتقالا قيصريا للسلطة يقوم به العسكر لحساب ثورة شعبية· كانت نقطة الجذب هي حسني مبارك· المهم أن يرحل· فكان من الصعب تأمل مجموعة الخيارات المطروحة· من تلك الخيارات، مثلا، أن يقدم الرئيس استقالته كإجراء دستوري، أولا، وكطريقة أكثر قربا من العقلية الجمهورية، ثانيا، ولا مانع بعد ذلك من لجوء رئيس المجلس الأعلى للقضاء إلى الاستعانة بالمؤسسة العسكرية وبغيرها في حل المشاكل العالقة· وبعبارة أخرى كان يمكن للمدنيين أن يتولوا حل مجلسي الشورى والشعب، والتفكير في دستور جديد وتنظيم انتخابات عامة···الخ، والسؤال الغريب الذي يطرح: كيف يعطى العسكر حق العمل خارج الدستور ويرفض للمدنيين؟ والفكرة التي تقول إن تنظيم انتخابات رئاسية في مصر في ظرف ستين يوما أمر مستحيل، لا تثبت أمام التمحيص· يكفي أن يضمن الجيش نتائجها كأحد أطراف اللعبة· وقد لا يحتاج الأمر إلى أكثر من حكومة كفاءات وطنية، كما اقترح محمد حسنين هيكل، يختارها مجلس موسع مكون من المجلس الأعلى للقضاء وقيادة الجيش، وعدد من الشخصيات المعروفة من أمثال محمد البرادعي وعمرو موسى ومحمد الزويل، والبقية ستحمل على عاتق الحماس الثوري·· وبعد ذلك يأتي الرئيس الجديد لينظم انتخابات عامة يكون الهدف منها انتخاب مجلس تأسيسي مهمته الوحيدة إنجاز دستور جديد للجمهورية· وقد طرحت إلى جانب ذلك العديد من الأفكار التي تدور كلها حول اقتراحات انتقال سلمي ومدني للسلطة، ولكن لم يستمع إليها أحد· لماذا؟ لأن الثورة كانت في حاجة إلى الجيش لينفذ الخطوة الأخيرة: طرد حسني مبارك، وبخاصة بعد أن تبين استحالة ذلك دون قوة الجيش· فحدث وكأن الثورة اضطرت إلى عقد صفقة مع المؤسسة العسكرية مؤداها أن تدفع بالرئيس خارج قصره شريطة أن تتكفل هي بتسيير المرحلة الانتقالية· ويبدو أن الصفقة كانت من جانبين: الجانب الأول بين العسكر والثورة، والجانب الثاني بين العسكر وحسني مبارك نفسه· ولعل هذا الشرط هو الذي جعل حسني مبارك يقاوم أكثر مما كنا نتصور· ولعل هذا هو السبب الذي جعل الجيش يتردد لعدة أيام بين إقراره بشرعية المطالب، في الأيام الأولى للثورة، وبين قراره النهائي الذي عبّر عنه عمر سليمان وهو يخبرنا بتنحي الرئيس· وما الذي كان يفعله المجلس الأعلى للقوات المسلحة بين كل بيان وبيان سوى استكمال سلسلة من المفاوضات مع الرئاسة، من جهة، ومع ممثلي الثورة، غير المعروفين إلى حد الآن، والذي ستكشفهم لنا الأيام القادمة· ونعتقد أن حركة الإخوان المسلمين، الأحسن تنظيما في المشهد المصري، كانت إحدى الأطراف المشاركة في هذه الصفقة· والمشكلة الأخرى التي صعبت من مهمة القوات المسلحة خوفها من صفة الانقلاب العسكري· الخوف من رد فعل الخارج والداخل على السواء· لم يكن أحد يتصور نوعية ردود الفعل الدولية، وبخاصة من حلفاء مصر التقليديين في الولاياتالمتحدة وإسرائيل ومن الدول العربية أيضا وبخاصة العربية السعودية وأكثر دول الخليج· ولنتذكر أن بعض دول الخليج اقترحت على مصر أضعاف ما تقدمه الولاياتالمتحدة من مساعدات· وكانت من مشكلات الجيش الكبرى إيجاد تكييف لما يقع بعيدا عن صيغة الانقلاب العسكري· وأما المشكلة الكبرى التي واجهها، وسيواجهها العسكر في الأيام والشهور المقبلة، فتتمثل في الكيفية التي يتوصلون من خلالها إلى التوفيق بين المطالب الداخلية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وبين مطالب الدول الكبرى المتعلقة أساسا بالمحافظة على اتفاق السلام مع إسرائيل· وقد رأينا كيف أن أغلب الزعماء الغربيين شرطوا تأييدهم لما وقع بضمان أمن إسرائيل، التي تأتي اتفاقات السلام مع إسرائيل في قلبها· ويأتي مطلب تغيير السياسة الخارجية في مصر من إسرائيل ومن القضية الفلسطينية ومن حصار غزة، واحدا من جملة المطالب الأساسية لانتفاضة الشعب المصري، على الرغم من صعوبة الوضع الاجتماعي والاقتصادي· وأكثر من ذلك فإن هذا المطلب يمثل الشرط الأكبر في عودة مصر إلى الزعامة العربية· ولا نستطيع معرفة مقدار ما يوليه المصريون من أهمية لهذه الزعامة· إنها تدغدغ عواطفهم وكبرياءهم أكثر من حالة الفقر التي يتخبط فيها عشرات الملايين· وأول خطوات الحفاظ على السياسة المصرية تجاه إسرائيل، كما هي، تبدأ من الإمساك بالسلطة في المرحلة الانتقالية، ومحاولة تنظيمها على هذا المقاس· ذلك أضمن لهم من التعويل، من البداية، على حكم مدني· ومن أكبر التحديات التي يواجهها المشير حسين طنطاوي اليوم الالتزام بما جاء في البيان الثالث: ''لن نكون بديلا عن الشرعية''·