أظهرت الصورة التي بثها التلفزيون المصري اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحت رئاسة وزير الدفاع، المشير حسين طنطاوي، وغياب القائد العام للقوات المسلحة، الذي هو رئيس الجمهورية· وفهم الجميع أن ذلك يعني شيئا واحدا: إبعاد حسني مبارك من المشهد السياسي المصري إلى الأبد· وما عدا رئيس الحكومة ووزير الإعلام، اللذين أكدا بقاء مبارك، فقد أجمع الأمين العام للحزب الحاكم، وسائر المحللين الذين استمعنا إليهم في القنوات العربية والأجنبية، وأقطاب المعارضة المصرية، وحتى المخابرات المركزية الأمريكية أن مبارك كان يعيش آخر ساعاته على كرسي الحكم في بلاد النيل· ما الذي حدث؟ كانت المظاهرات في القاهرة وسائر المدن المصرية قد بلغت يوم الخميس ذروة لم تبلغها من قبل· فاضت موجات الجماهير وتدفقت من ميدان التحرير إلى الشوارع المجاورة (الجزيرة تكلمت عن ثلاثة ملايين معتصم بالميدان وما حوله)، وتكلمت الأخبار عن اعتصامات أخرى، منذ يوم الأربعاء، حول مقرات حساسة مثل مجلسي الشعب والشورى، واضطر رئيس الحكومة إلى الرحيل إلى مقر وزارة الطيران، بعد أن حالت الجماهير بينه وبين الدخول إلى مقره، وتجمعات لأعداد هائلة أمام مقر الإذاعة والتلفزيون، وعرفت الاحتجاجات، من جهة أخرى، تطورا آخر يتمثل في مجموعة كبيرة من الإضرابات في القطاع الصناعي والتجاري: في مصانع الحربية والحديد والصلب والبيتروكيمياء، وفي بعض شركات السويس· وتمرد الصحفيون على نقيبهم، وتجمع السينمائيون والأساتذة ونظم المحامون مسيرة جابت الشوارع إلى حدود القصر الرئاسي قبل أن تلتحق بميدان التحرير·· هذه واحدة· والثانية أن الجيش يكون قد استنفد كل قواته، ولم يعد يتوافر على المزيد منها لنشرها في مناطق أخرى في مدن أخرى· وبدأت القوات المسلحة تفهم أنها لا تتوافر على الوسائل اللازمة لإتمام المهمة التي ألزمت بها نفسها: حماية المؤسسات الحساسة ووقوفها على الحياد بين الشارع والنظام· لقد سئم الجنود والضباط العمل بطريقة متواصلة، ليلا ونهارا، لأكثر من أسبوعين لا ينامون ولا يستريحون، بسبب أن عملية المناوبة أصبت مستحيلة· لقد وجد الجيش أنه يقوم بمهمة قاسية، لم يعد يطيقها· فكان لا بد أن يحدث أمر ما يخفف عنه هذا الحمل· والثالثة أن شائعات كثيرة تسربت، منذ أيام، عن خلاف بين القيادة العسكرية وبين نائب الرئيس عن مسألة بقاء الرئيس أو ذهابه ونقل السلطة··إلخ إلى أن جاء البيان الأول· فهم هذا البيان على أنه موقف سياسي للجيش يختلف عن موقف مبارك ونائبه والحكومة جميعا، وأنه بات، منذ هذه اللحظة يتصرف باستقلالية تامة عن المؤسسة السياسية· وانتشر خبر، غير مؤكد، أن بيان الجيش استباق للكلمة التي سيلقيها الرئيس·· وبات مؤكدا أن البيان الثاني سيعلن عن انتصار الثورة وتنحية مبارك وتشكيل حكومة انتقالية يشرف عليها الجيش أو يزكيها وما شابه ذلك من الخيارات التي تطرح في مثل هذه الظروف الثورية· ونسي المحللون أن عملية من هذا النوع لها اسم واحد هو الانقلاب العسكري· وبالتالي يجب طرح الأسئلة التي لابد وأن ترافقه: من يتحمل مسؤولية القيام بانقلاب عسكري، وهل ذلك ممكن أصلا في مصر، وهل إجماع القيادات العسكرية على ذلك أمر ميسر، الآن، في الجيش المصري، وهل هناك شخصية عسكرية معارضة للنظام وتتمتع في الوقت نفسه بالإجماع داخل مؤسسة تضم أكثر من أربعمائة ألف عسكري وآلاف الضباط وعشرات الجنرالات؟ الجواب أنه من الصعب توقع انقلاب عسكري على الطريقة القديمة، لأن تطور الظروف الدولية لم يعد يسمح به ولأن طبيعة الجيوش في الدول الشمولية لا تسمح بوجود شخصية مركزية تأمر فتطيعها كل القوات: الطيران والقوات البرية والبحرية والمخابرات والإمداد والإشارة والصناعة الحربية··الخ وعلى الرغم من أن خطاب مبارك أعطانا المفتاح الذي يتيح لنا وضع موقف الجيش في مكانه الصحيح، إلا أننا تجاوزناه ورحنا ننتظر البيان الثاني· فبعد أن عدد الرئيس كل خطوات الإصلاح التي قررها قال: إن القوات المسلحة هي التي ستضمن تطبيقها· ثم جاء عمر سليمان ليؤكد الكلام نفسه· وأكثر من ذلك، فإن ما جاء في خطاب الرئيس متساوق مائة في المائة مع ما كان الجيش قد أعلن عنه منذ الأيام الأولى: الاعتراف بثورة الشباب ومشروعية مطالبهم، وعظمة الشعب المصري وضرورة الإصلاح·· ومع ذلك عاش المتظاهرون والمحللون على سراب يسمى تدخل الجيش لصالح الثورة، ولا يزال أمثال البرادعي ومحمد حسنين هيكل وأيمن نور والإخوان المسلمون ينادون بضرورة أن يقوم الجيش بحسم الموقف ضد النظام· ومن الصور التي غذت هذا الأمل إقدام مجموعة من الضباط (رائدان ومقدم إلى غاية كتابة هذه السطور) على إلقاء السلاح والانضمام إلى المتظاهرين· ومن المحللين (عزمي بشارة على سبيل المثال) من قال: إن عملية التمرد هذه محسوبة· هل يعني أن القيادة هي التي دفعته من قبيل تبليغ رسالة إلى حسني مبارك، وهل يعبر هذا التمرد عن الرأي العام السائد في القيادة؟ وهل يعني أن عملية أوسع ستشمل ضباطا آخرين أكثر رتبة وأقرب إلى أصحاب القرار في قمة هرم المؤسسة؟ كان من السهل المغامرة بجواب إيجابي قبل خطاب مبارك وبعده إلى صبيحة يوم الجمعة، إلى أن سقط البيان الثاني· وماذا يحمله هذا البيان غير إكمال الصورة التي رسم معالمها الكبرى خطاب الرئيس؟ مبارك قال: إن الجيش هو الذي سيضمن تنفيذ التعديلات الدستورية وهو الذي سيضمن رفع حالة الطوارئ وهو الذي سيضمن انتخابات حرة ونزيهة وهو الذي سيضمن الحريات·· الخ ولم يخرج البيان الثاني للمجلس الأعلى للقوات المسلحة قيد شعرة واحدة عن مسايرة مبارك فيما قال: نعم نحن سنضمن ما قاله الرئيس، ولكن بعد أن تستب الأوضاع وتستقر الأمور ويدخل المتظاهرون إلى بيوتهم·· لم يعد هناك مجال لبيان ثالث· لقد وصل إلى حدوده القصوى: إما دخوله في مواجهة مباشرة مع الثوار: مواجهة يمكن توقعها في أية لحظة، مع ما تحمله من المآسي والدماء، فوق ما تحمله من انقسامات ممكنة داخل هذه المؤسسة لا تؤدي إلا إلى المزيد من الدماء· وقد كان أول رائد متمرد في غاية الوضوح وهو يشير إلى أن وزير الدفاع هو أيضا جزء من النظام، وقال إن ولاءه إنما هو لجمهورية مصر العربية لا للنظام المصري ولا للوزير الدفاع· لقد فتح هذا الضابط بابا من الصعب غلقه، والذي نعتقده أن عدد المتمردين سيزداد في الأيام القادمة، وأن ذلك يؤثر كثيرا على ما يعبر عنه بالموقف الحيادي للجيش طويلا· لا بد أن يكون سيناريو تمرد عسكري يقوم به ضباط من الدرجة الثانية، يؤرق فراش القيادة والرئاسة معا، ولا بد أن تكون المخابرات ومصالح التفتيش بالجيش بصدد وضع الخطط تلو الخطط لمواجهة هذا الكابوس، وأخيرا فإن تمرد الضباط لن يستمر إلى نهايته في شكل سلمي يسلم من خلاله الضباط والجنود أسلحتهم بشكل حضاري إلى قياداتهم ثم يلجأون إلى الشعب لحمايتهم· وفي هذا الإطار يفهم التحذير الذي جاء في البيان من المساس بالأمن القومي، من طرف المتظاهرين ومن طرف النظام على السواء· وإما أن يتنحى مبارك بمحض إرادته أو في إطار اتفاق مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة· وهذا ما وقع بالفعل· اقتنع الرئيس أخيرا أن الأمن القومي في خطر وأن تنحيه من شأنه أن يسهل الأمور على القيادة العسكرية· ويبدو أن هذا السيناريو كان محضرا، من قبل· ويمكن أن يكون مبارك وسليمان قد طلبا من القيادة العسكرية مهلة يوم وليلة تلعب فيها آخر ورقة· فكان لهما ما أرادا·· وعندما فشلت·· أعلن الرئيس عن تنحيه·