''إن الجماهير، وليس الجماهير العمالية فقط، سوف تعلن استقلالها عن الأقليات التي كانت توجهها حتى ذلك التاريخ، وأنها ستفرض هيمنتها في كل المجالات''· خوسه أورتغا إي غاست / كتاب تمرد الجماهير الجميع يتكلم عن التغيير في تونس، وأن حرق شخص لنفسه هو سبب كل شيء حدث· وهو ما جعل العدوى (أي عدوى الانتحار حرقا) تنتقل إلى أكثر من بلد عربي، لكن من دون أن تحدث نفس النتائج؟ الحقيقة أن تونس كانت متهيئة من قبل لضمان نجاح التغيير، ومن ثم جاء حرق البوعزيزي لنفسه بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير· فالتغيير ليس عملية سهلة، ولا يمكن التنبؤ بدقة بمساره أو تأكيد وضمان نجاحه· فكم من التغييرات فشلت، وكم من الثورات أخمدت في المهد· وهو ما يعني أن عملية التغيير في تونس جاءت بتفاعل مجموعة من الأجزاء المتكاملة مع بعضها البعض من أجل تحقيق هدف التغيير· كانت أهم أجزائها متهيئة ثم اكتمل جزء حرق البوعزيزي لنفسه، وجزء صمود الشعب، ودعم ذلك جزء توافق النخبة والمثقفين حول الوقوف مع الحرية، من كتاب وصحافيين ومحامين وقضاة وأساتذة ومعلمين وأطباء· لذا لا يمكن الحديث عن التغيير وإغفال دور التذاؤوب (La Synergie) بين كل هذه الأجزاء المذكورة في صناعته· كمختصين في إدارة المنظمات والتغيير، نتكلم كثيرا عن إحداث التغيير الصادر من أعلى الهرم في المنظمة، ونبحث في ضمان نجاحه، من خلال توفير المتطلبات والشروط الأساسية لذلك· حتى نقلل مما يعرف بمقاومة التغيير التي قد تنتج من مختلف الفئات والطبقات في المنظمة وخارجها الرافضة لهذا التغيير لسبب مشروع أو غير مشروع· أما الحديث عن عجز من يديرون أعلى الهرم في إحداث التغيير المطلوب، وتفضيلهم تكريس الوضع الراهن لضمان استمرار مكاسبهم ومصالحهم، باستخدام كل الأساليب المتاحة أمامهم سواء كانت مشروعة أو غير المشروعة، المهم يحافظون على إبقاء الوضع على حاله، وهو ما يمثل لهم الاستقرار، أما عدا ذلك فهو تهديد لمنافعهم ومصالحهم المكتسبة· يجعلنا نتكلم عن التغيير من الأسفل إلى الأعلى، أي الهرم بالمقلوب· النظام الذي لا يمتلكك أدوات التغيير يفقد مبررات بقائه (مقولة لا أتذكر أين قرأتها)، وهو ما يكون مبررا لحدوث تغيير ديمقراطي سلمي من نوع آخر، تلعب فيه النخب وطبقات المجتمع المختلفة الدور الأبرز· لا تختلف نسبة كبيرة من المهتمين والمختصين على أن النظام في الجزائر عاجز وليس بإمكانه سوى إنتاج وتكرار إنتاج التخلف· أتذكر لما كنت طالبا في الثانوية في مقياس القانون، كان الأستاذ يؤكد لنا بأن أي دولة تحترم نفسها هي تلك التي تضمن استقلالية السلطات فيها، أي استقلالية السلطة القضائية والسلطة التشريعية (البرلمان بغرفتيه) عن السلطة التنفيذية· في الجزائر الأمر مختلف السلطة التنفيذية تسيطر على كل شيء· الأستاذ مقران آيت العربي، في كتابه بين القصر والعدالة؛ من ملفات محامي غاضب، ''2009، يبدأ قسمه الأول بعنوان: بدون مقارنة، فيتكلم فيه عن تفتيش قاضي التحقيق في سنة 2007 لمكاتب وزارة العدل الفرنسية، قصد البحث عن ملفات تكون الوزارة قد أخفتها عن القضاء في عملية اغتيال قاضي فرنسي في جيبوتي·· ويستدرك صاحب الكتاب بأنه عندنا في الجزائر قام وزير العدل في سنة 1996 بتوجيه مذكرة إلى رؤساء المجالس القضائية والنواب العامين، يلزمهم ويستعجلهم بتنفيذ تعليمات الوزارة، وأن أي امتناع أو تأخير في ذلك، سينجر عنه مساءلة المخالف ومعاقبته!· أما بالنسبة للبرلمان، أو ما يعرف بالسلطة التشريعية، فيرى أحمد بن بيتور رئيس الحكومة الأسبق ''أنه في مسار ثلاث برلمانات لم يقدم المجلس الشعبي الوطني ولا مقترح قانون واحد'' (جريدة الخبر ليوم 20 جانفي 2011)· وأن النسبة الغالبة من ممثليه فقدوا ثقة الشعب، ولم يعد لهم أية مصداقية· أما السلطة الرابعة وهي الإعلام الوطني خاصة الثقيل منه، فهو يفتقد إلى الاستقلالية، ومغلق على الرأي الآخر، ولا يخرج من تحت يد السلطة التنفيذية· التغيير السلمي لا يأتي هكذا لوحده، كنتيجة حتمية فقط لرغبات الناس وآمالهم في تغير الوضع إلى وضع أفضل منه· إنما هناك منهجيات وسيرورات لإحداث التغيير، فعلى سبيل المثال نجد أن أغلب النماذج (Change models) المتبعة في التغيير اعتمدت على النموذج الذي قدمه كيرث لوين (Kurt Lewin)، المتكون من ثلاث مراحل أساسية؛ حيث أن الخطوة الأولى (مرحلة إذابة الجليد: (Unfreezing stage ، تهدف إلى إقناع أفراد المجتمع بأن الظروف والأوضاع السائدة وسلوكيات السلطة القائمة لا تتناسب مع الزمن الحاضر ولا مع المستقبل المنتظر· وهذا ما يبرره ''عجز النظام القائم عن حل الأزمات التي تولد في أحضانه وأطرافه، وعجزه عن المشاكل الكبرى التي يواجهها تطور المجتمع''، كما أكده محمد شفيق مصباح الذي تقلب في دواليب الحكم، وخرج عنه بسبب اختلاف في التصورات، في كتابه ''الجزائر بين ركود و نهوض، .''2009 لكن وللأمانة النخب عندنا غير مؤهلة بدرجة كافية للعب دور مهم في خلق المناخ الملائم للتغيير، لأنها منهكة بفعل الصراعات و الانقسامات، وغياب النضج الفكري والسياسي، وهشاشتها وضعف مصداقيتها أمام مجتمعها· فالمثقفون في الجزائر يعيشون في جزر منعزلة ومتنائية عن بعضها البعض، وعن المجتمع، فهم أشبه برجال السياسة عندنا، لا يجتمعون إلا في الجنازات والمقابر فقط، كما يقول مرزاق بقطاش في روايته ''دم الغزال، ''1995، ''كيف يجتمع مثل هذا العدد من أولئك المتصارعين المتناحرين في مساحة بالغة الصغر والضيق مثل هذه؟ كيف تعجز البلاد كلها عن ضمهم من أجل خدمة مشروع واحد، بينما تحتويهم بقعة يقال إنها مربعة الشكل وهم على هذا التباين كله؟''· أذكر أنني تفاجأت ودهشت لما سمعت، مؤخرا، أحد الأكاديميين يتكلم عن الطاهر وطار بصفته أحد المقربين منه، على أنه كان في كل مرة يختلق ويفتعل الصراعات مع بعض الكتاب، حتى تتكلم عنه الصحافة، لأنه يخاف من أن يغيب ذكره عند الناس· أظن أن عدم تخطي المرحلة الأولى بنجاح لا يؤدي إلى الانتقال إلى الخطوة الثانية (مرحلة التغيير: (Change stage، كما حدث في تونس من خلال تغيير نظام الحكم المستبد، والانفتاح على مشاركة مختلف مكونات المجتمع التونسي في الحكم· كما لا يؤدي كذلك إلى الانتقال للخطوة الثالثة (مرحلة إعادة التجميد: Refreezing stage)، التي تبرز فيها الأنشطة ومختلف الأعمال التي تؤدي إلى ضمان استقرار التغيير الذي جرى، كما فعل التونسيون لحماية أحيائهم وممتلكات بلدهم من النهب والتخريب، وصمودهم أمام الحكومة حتى سقوط من ينتمون إلى حزب النظام السابق· لأنه من الصعوبة أن يتبنى الجميع التغيير ويتقبلونه في وقت سريع، حيث نجد من يريد أن يختبر فعالية التغيير، كما نجد من هو متحفظ ومرتاب من نتائجه· في ظل غياب نخبة مثقفة حقيقة، متماسكة ومستقلة تحدث التوازن بين السلطة والشعب، وانطلاقا من الكثير من التجارب القديمة والحديثة التي مرت بها الجزائر، يبدو أن الوضع مختلف تماما عن تونس، والشعب عندنا إذا فقد صبره من الصعوبة أن يحافظ على اتزانه، ورباطة جأشه، وينهج إلى التغيير السلمي· وأريد أن أختم بأبيات من قصيدة شعرية بعنوان انتظار، للشاعر الأرجنتيني ماركو سايا: أصغوا إلى أصوات الشعب اليوم صامت أصغوا إلى كلمات الناس غدا سيكون الوقت متأخرا كثيرا··