شهد القرن الجديد مصرع صدام حسين، والزرقاوي وبن لادن... ثم الموت الدراماتيكي للبوعزيزي، مات فأحيا شعوبا وقبائل ظنها الكثيرون ميتة. لا سيما النخب (المثقفون) الغارقون في أوهام الحداثة. قامت الثورة من وراء ظهورهم، فراحوا يصدونها بلغة الشبيحة والمندسين كأدونيس وانسي الحاج، وبعض العلب القديمة. على إثرها انبعث المد الثوري العربي عبر النشيد السماوي: ''إذا الشعب يوما أراد الحياة''· ألا انهض وسر في سبيل الحياة.. خلقت طليقا كطيف النسيم، وحرا كنور الضحى في سماه، فهز النفوس الجامدة. فثارت لتحرق كومة العشب اليابس، ثارت لتهدم الفساد، ثم تهدأ لتبني الأمجاد. الشعب يريد إسقاط النظام. الشعب يدين فخامة الاستبداد. شهوة السلطان العربي، شهوة عاتية أعتى من أية شهوة. لا تكبح إلا بالموت أو الخلع أو القلع، قلع الضرس المشؤوم من الجذور. إندحر الاستعمار منهزما، فخلفه الاستبداد محتلا، بتحالف قوى الإقطاع الجديد مع بقايا المافيا المالية والعصبوية. بين رجل الأمن وريح سمسار... في نظم فاشلة تدار الأمور فيها وتحكم بالتعليمات، الحكم العائلي: القذافي وأبناؤه أفنوا مقدرات الشعب الليبي عبثا. عندما شنق صدام حسين تحسس القذافي رأسه، فسلم للغرب وفكك برنامجه النووي بالمليارات، تسلم قائلا: ''الآن طز طز في أمريكا اللاتينية''. أما بن علي ومراتو والطرابلسية فاستحوذوا على الاقتصاد التونسي· الحكم العلوي السوري، ابن خال الرئيس رامي مخلوف يستأثر ب 60 في المائة من الاقتصاد السوري، وهكذا مع عائلة مبارك، سوزان مراتو وأحمد عز السمسار مع مافيا العقار، طغيان الفساد ولد أزمات من فوقها أزمات. أزمة في السكن، الرشوة، البطالة، المحسوبية، الفقر، انعدام التنمية، ضعف الخدمات الصحية والتعليمية.. فكيف يخرج الإصلاح من الفساد؟ وهل تخرج الديمقراطيات من رحم الثورات؟ في نظم شاخت بشيخوخة حكامها المشايخ المستبدين، هرموا فهرمنا من أجل هذه اللحظة الأبدية. ملك السعودية 91 سنة تقريبا وولي عهده الأول 82 سنة، وولي عهده الثاني 76 سنة وثلاثتهم مرضى. التونسي الفار (الفأر) 76 عاما اسم فاعل مجرور، مخلوع. ويطمع أن يزيد، المصري المسجي في القفص 83 سنة، تاعنا 74 سنة أو ينيف، القذافي 70 سنة ويطمع في توريث الابن المدلل 40 سنة أخرى، السوري امتداد لأبيه يحكم من القبر بالحرس القديم... نظم مزمنة تعيش في المكان خارج الزمان، لا تساهم في الحضارة، بل هي عالة عليها. مقابل أمم حية شابة في سن الرشد السياسي والفعل الحضاري، الأمريكي 51 سنة، دافيد كامرون 45 عاما، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل 50 سنة، ساركوزي 54 سنة..· ويتداولون على الحكم سلميا وديمقراطيا. زد ثورات فجرها الشباب فخطفها الشياب. ''أتنحي راس أبصل إيجيك راس ثوم''، فمن الغنوشي إلى الطنطاوي إلى القايد السبسي الباجي والمبزع les vieux carcars.... إذن: فكيف تتحوّل الديكتاتورية إلى ديمقراطية؟ وكيف يتشكل نظام الحكم الراشد؟ فالدولة الدينية مرفوضة، كما العلمانية، الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية غير واضحة الملامح، كيف مدنية ودينية في آن واحد؟ أي مدينية. فهل يطبق الدين مطلقا: عقيدة وشريعة؟ أم يظل محصورا في الأحوال الشخصية فقط؟ كما هو في نظم الاستبداد شبه العلمانية، الجانب العبادي الطقوسي شرعي.. الجانب المدني الإداري والجنائي -وضعي- هناك التجارب السياسية ترفع شعار الإسلام هو الحل.. دون أن تدرك ذلك في الواقع جيدا. مادة الإسلام دين الدولة جامدة وغامضة.. فالنموذج السوداني مثلا قسم السودان شطرين شمالي وجنوبي، النموذج الأفغاني أدى إلى حرب أهلية وصراع على السلطة، حول من يطبق الشريعة، تلاه النموذج الطلباني القاعدي المشوّه، الذي برر الحرب على الإسلام بحجة الإرهاب. النظام السعودي تقليدي جامد مزدوج يصادر حقوق الإنسان وحريات الناس، فالدعوة إلى الإصلاح أو التظاهر السلمي، أو انتقاد الملك المقدس يكلف أصحابها أعواما من الاعتقال التعسفي دون محاكمة، فضلا عن إثارة قضايا هامشية، المرأة تسوق السيارة أو لا تسوق! تنتخب أو لا تنتخب. فلو عاد الشيخ محمد عبد الوهاب لطالب الجميع بالإصلاح فورا، وتفكيك منظومة الاستبداد لبسط العدل ''أوشك فجر الشرق أن ينبثق، فقد إذ لهمت فيه الخطوب وليس بعد هذا الضيق إلا الفرج .. سنة الله في خلقه'' جمال الدين الأفغاني. ما زال النموذج التركي، رغم علمانية الدولة، فإن حزب العدالة والتنمية سعى إلى إرساء دعائم الحكم الراشد، بتحقيق جواهر الدين، ومقاصد الشرع، العدل كأساس للملك، التنمية الاقتصادية، المساواة الاجتماعية، تحت سقف المواطنة ومبدأ سيادة القانون. العدالة على مستوى القضاء والحقوق والحريات. برجال مصلحين راشدين طبقا لمبدأ قرآني يقول: ''أليس منكم رجل رشيد؟'' يحقق الرشد السياسي والفعل الحضاري إرجاعا للنهضة الغائبة والمجد الضائع؟