الحشد الشعبي الذي غطى الميادين الرئيسية في القاهرة وغيرها من المدن المصرية الكبرى، بشر بأن التيار المدني الذي صنع ثورة مصر وغيرها من الثورات العربية، مازال يمكنه أن يختصر الزمن العربي، ويزيح السلف الإسلامي من قيادة المرحلة بأسرع مما هو متوقع· مازال الشارع لهذا التيار، الذي حقق الإنجاز التاريخي الباهر، وما زال الشارع هو الحكم· لعل أهم ما حققته الثورة هو أن ذلك الشارع صار المصدر الفعلي للسلطات والمركز الحقيقي للمراقبة والمحاسبة، الذي يتقدم على المصادر والمراكز الأخرى التي رتبت على عجل وبطريقة عفوية انتقامية، لتتولى الإشراف على مرحلة انتقالية عابرة ما بين الطغيان والديموقراطية· كسر الجمهور المصري والعربي عموما حاجز الخوف من الطغاة من خلال الشارع، الذي لم يعد يختلف عن أي شارع آخر في آي مدينة من أي دولة ديموقراطية عريقة· التظاهر بات حقاً مقدسا، والتعبير عن الرأي يقترب من مرتبة القداسة أيضاً، لولا بعض الموانع الثقافية المعروفة والتجارب السياسية المحددة· وهذا بحد ذاته اختراق كبير للوعي العربي، الذي لا يزال البعض يحرم التظاهر أو يعتبره تآمرا خارجيا ولا يزال البعض الآخر يعتبره فوضى وتخريبا· لم يعد بإمكان أي سلطة أن تسلب هذا الحق من الجمهور، حتى ولو استخدمت جميع النصوص المقدسة في الدين أو في السياسة أو في الاجتماع، فهذا هو المقياس الجديد للتمدن والتطور العربي الذي يتقدم في هذه اللحظة على تجربة الوقوف صفا واحدا أمام مراكز الاقتراع من أجل التصويت الذي كشف عن الكثير من الأمية السياسية لدى الناخبين، وأدى إلى ذلك المشهد الكئيب في البرلمانات العربية المنتخبة حديثاً· هي مفارقة غريبة، أن تكون النخبة المثقفة والمتعلمة والمدنية في الشارع، وأن تكون العامة الإسلامية (حتى بالمقاييس الإسلامية نفسها) في البرلمان، وهو واقع مرشح للاستمرار سنوات، ويعبّر عن خلل في تكوين تلك النخبة الطارئة أصلا على العمل السياسي، وعن فراغ في تشكيل العامة الإسلامية الخارجة للتو من مطاردات الأنظمة السابقة· الفراغ الإسلامي مفهوم، لأن النص مفرغ، لكن الخلل المدني غير مبرر، لأن المشروع مغرٍ حتى لأبسط البسطاء، الذين ردت لهم الثورة معظم حقوقهم الفردية والوطنية· الانتظام في كيان واحد هو شرط من شروط البقاء· والاحتكام إلى برنامج واحد أيضاً ضرورة مطلقة· ما تحقق حتى الآن دون تنظيم أو تخطيط أو تمويل، حتى في الانتخابات نفسها، لم يكن عابرا أبدا· لكن الشارع في حشده الأخير حدد مطلبا عاجلا هو أن تعود الثورة إلى أصحابها الأصليين، الذين يفترض ألا يقللوا من أهمية ذلك الدور الذي اكتسبوه، ولا يفرطوا به·· ومثلما يتشكل تيار إسلامي عريض على مستوى العالم العربي يوفر الغطاء للحكومات الإسلامية الجديدة، يمكن أيضاً أن يتكون تيار مدني عربي واسع يحدد مسار التغيير ويمنع حرفه عن اتجاهه·