بعد فشل مجلس الأمن الدولي المتوّج بتصويت روسي صيني باستخدام حق النقض على مشروع قرار متواضع جداً، بخصوص العنف القائم في بلادهم، أيقن السوريون بوضوح بأنه لا مجال لأي دور خارجي سياسي أو أخلاقي يساعدهم على الوصول إلى حل سلمي للأزمة القائمة منذ قرابة العام والتي عبّروا من خلالهم عن توقهم للحرية وللكرامة وللعدالة· وعلى الرغم من أن مشروع القرار لا يتحدث عن أي تدخل خارجي، ولا عن أي تغيير في السلطة ولا عن حظر للتسليح ولا حتى عن مساءلة المسؤولين عن العنف، فإن الرفض الروسي الملحوق بالرفض الصيني مؤشرٌ على قصور واضح لآلية دولية مفترض بها أن تكون درعاً أممياً لحماية الحقوق الإنسانية والسلام· ئإن النظام الأممي لا يحيد عن طريقه المتعرجة إلا لماماً، فهذا التصويت بالفيتو ليس خاصية روسية أو صينية، وسبق له أن تتالى أميركياً بخصوص مجالات جغرافية أخرى في العالم وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا الشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود· وبالتالي، يبدو أن الحديث عن عدم مصداقية الآليات المعمول بها، بالإشارة إلى المواقف السلبية أيضاً لفيتوهات أميركا فيما يخص حماية ''حق'' إسرائيل في القتل وفي الاحتلال، يبدو كلام حق يراد به باطل· فمن الحق القول بأن مجلس الأمن وقف عاجزاً أمام انتهاكات عديدة جرت وتجري في أصقاع الأرض بسبب النظام ''النخبوي'' المعمول به والذي يعطي لأصحاب السطوة الدولية الخمسة القدرة على تسفيه الحقوق وانتهاك المواثيق بمجرد رفع اليد· ولكن، من الباطل ومن أشد الأباطيل دفعاً للاشمئزاز القول بأن استخدام الفيتو، لحماية عملية القتل المستمرة ولإعطاء الضوء الأخضر لمتابعة القتل بدم بارد مُدان في سعيٍ لإراقة دماء المدنيين الحارة، هو انتصار لقوى ''التقدم والممانعة ضد النظام الدولي الإمبريالي الجديد والمسيطر عليه من قبل التيارات المحافظة الحاكمة في دول الغرب المتصهينة''· هذا الخطاب اليساروي الطفولي، والذي يرتبط عضوياً بمستوى من الضحالة الفكرية والجهل الإنساني، إضافة إلى تقاطعه مع تفكير يميني متطرف فاشي النزعة، يستمر في إضفاء الضبابية على التحليل الطبيعي لظواهر واضحة المعالم ولا تحتاج إلى مستوى عالٍ من التبصّر العلمي بل إلى حد أدنى من المشاعر الإنسانية· إن العقلية الستالينية النازية الجديدة التي تجد لها متنفساً للتعبير، عربياً وإقليمياً، على هامش المذابح القائمة، تعتبر متجردة من أدنى القيم الإنسانية أو حتى الحيوانية· وهي تكاد تتمتع وترقص وتنتشي بمشاهدة القتل والقتلى، وتكاد حتى تملأ كؤوساً من الدماء كما في أساطير روما القديمة· في الوقت ذاته، تنبري هذه العقلية لإعطاء الآخرين، وخصوصاً الضحايا على فراش الموت، دروساً في الوطنية وتتهم من يخالفها في الموقف بالتبعية إلى جهات خارجية· في حين، وفي الحقيقة الماثلة لكل مراقب ولو كان محايداً، فهي قائمة عضوياً ومالياً، وربما فيزيائياً حتى، على التبعية لعقائد فاشية وإلى جهات خارجية بامتياز لم يكن تاريخها القريب إلا شاهداً على تجردها من كل ما يمت بصلة إلى المفاهيم الأساسية للحرية والكرامة والإنسانية· وإن امتطت هذه العقلية صهوة القضايا الكبرى لتخفي عقمها الأخلاقي ولتبرر موقفها المتساكن مع القتل، فإنها تساهم من حيث تدري أو لا تدري، وغالباً هي تدري، في تسفيه القضايا الكبرى التي تتلظى بها وبالإساءة إلى شعوبها المعنية مباشرة بما يحيق بها من ظلم المحتل وعهر ذوي القربى أصحاب هذه العقلية· وفي غمرة الفرح بالموت، يعتقد أصحاب هذه ''المدرسة'' بأن روسيا البوتينية تستعيد لهم اتحاداً سوفييتياً ميتاً ساهموا أساساً هم، متطفلو اليسار، ستالينيو الأخلاق، مركانتيليو المصالح، من خلال فسادهم وإفسادهم التجاري والأخلاقي بخرابه· من جهة أخرى، فإن قيام روسيا والصين باستخدام حق النقض في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يدعو إلى إيجاد حلول سياسية سلمية للأزمة السورية، لا يجب أن يعتبر موقفاً مصالحياً محدداً بالعلاقات ''المتميّزة'' التي تربطهما بالنظام السوري الحاكم· إن روسيا تنتقم وتفاوض وتساوم، وهي ليست في معرض الدفاع عن حقوق أي من الشعوب أو حتى الدول، في مواجهة الهيمنة الغربية المتجددة والمتوسعة والمتجذرة على هذا الكون كما يحلو لها أن تدّعي، وكما يحلو لأصحاب العقول القاصرة أن يروّجوا· إن المصالح التجارية والعسكرية والاستراتيجية للمجموعة البوتينية الحاكمة ليست العامل الأساس والمحدد لموقفها من الأحداث في سوريا· إن روسيا، وبجريرتها الصين، تقوم بالانتقام السياسي، على حساب أرواح مئات الضحايا، من نظام دولي جديد أقصاها عن ساحة الفعل الدبلوماسي الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي· إنها تنتقم مما حصل رغماً عنها في البلقان في تسعينات القرن المنصرم، وهي تثأر لما تعتبره انتهاكاً أمنياً استراتيجياً لمصالحها في قضية الدرع الصاروخي الأمريكي، وهيئ تساوم على حصتها من الكعكة الليبية، وهي تدافع عن تقاطع مصالح ضيقة شخصية لقيادات لديها مع بعض المسؤولين عن الدمار والخراب، وهي في النهاية، ترغب في أن يرتفع ثمن مواقفها لأن العروض المقدمة حتى الآن من الأميركيين ومن الغرب عموماً لا ترقى إلى ما تطمح إليه بخصوص أسواق عديدة مليئة بالمشاريع الغازية والطاقوية· أما الصين، فهي كما روسيا، لا تنظر إلى الملف السوري إلا من خلال مواجهة ما تراه وتعتقده إقصاء متعمدا لتأثيرها في ظل هيمنة غربية على الساحة السياسية إضافة إلى مقدرتها التفاوضية المرتفعة نسبياً مع الغرب استناداً إلى موقعها الاقتصادي المتقدم والمؤثر· ويجتمع البلدان بالتزامهما الذي لا غبار عليه بكل الانتهاكات المعروفة والمضمرة للمواثيق الدولية المتعلقة بحقو الإنسان، وقد أظهرا عملياً قدرات كبيرة في ''الحرب'' على الحقوق وفي قتل الآلاف روسياً والمئات صينياً ممن سعوا إلى حق تقرير مصيرهم أو إلى محاولة التعبير عن قضاياهم الاقتصادية والسياسية· ما يغيب عن ذهن العقلية الستالينية النازية العربية والإقليمية محدودة التطور ومن يلوذ بها قانعاً أو خانعاً من أصحاب نظريات المؤامرة، والتي تغذي خطابات تستهزئ بالضحايا، هو أن الرهان على قوى تقوم سياساتها على المساومة الرخيصة هو عملية قصيرة النظر، ومآله فقدان دعم هذه القوى ومن يلوذ بها في مدى منظور بعد أن تتلقى ثمناً مناسباً لتغيير مواقفها· وبالتالي، ستجد هذه العقلية نفسها وحيدة في مقدمة صفوف مسرح المساءلة التاريخية ولو أنها سعت إلى اللحاق بالركب متأخرة· لن تساعدها مظلات صينية رديئة الصنع أو خردوات معدنية روسية من أنئتحمي نفسها من نظرة الحق من الضحايا الذين لن يساوموها البتة لكي تقلب السترة على الرغم من تمرّسها التاريخي في ذلك·