إن نظرية الحتمية القيمية تختلف عن النظريات الغربية السابقة، خصوصا نظرية مارشال ماكلوهان، على مستوى القيمة التي يعتبرها الدكتور عبدالرحمن عزي نوعا من التعبير عن الذات والتميز الثقافي والحضاري، حيث يعتمد عزي عبد الرحمن على القيم لتحقيق التنوع الثقافي الإيجابي والوقوف كسد منيع ضد أخطار العولمة ولحفظ ثقافة بعض البلدان من الذوبان. أما وأن نعتبر مبادئ وأسس كل مجتمع على أنها قيم أصيلة، فهذا بُعد عن الحقيقة، وإلا فإن قيم الأصالة إذا خرجت عن مصدرها الصحيح، وهو الوحي تحوّلت إلى ثقافة بلا معلم ثابت، وتفقد بذلك القيم خاصيتها الأساسية وهي الثبات .والظاهرة الإعلامية عند مفكرنا تتألف من سبعة مركبات متداخلة بنيويا هي :المرسل والرسالة والجمهور والأثر وتعود هذه للاسويل، والوسيلة تعود لماكلوهان، والنظام الاجتماعي والبعد الحضاري وهي ذات نزعة قيمية، فتعود لعبد الرحمن عزي .والإعلام عنده يجب أن يكون دائما حاملا للقيم الثقافية والروحية التي تدفع الإنسان والمجتمع إلى الارتقاء والسمو .وإذا كانت نظرية مارشال ماكلوهان قد تطرقت إلى تكنولوجيا وسائل الإعلام وتأثيرها على المجتمعات فوسائل الإعلام عنده إما هي وسائل لنشر المعلومات والترفيه والتعليم أو أنها جزء من التطور التكنولوجي، بينما نظرية الحتمية القيمية تهتم أكثر بمضمونها وطريقة استخدامها والهدف من ذلك الاستخدام، كما ترى هذه النظرية الجديدة أن وسائل الإعلام جزء من العملية التكنولوجية التي غيرت وجه المجتمع، وعليه فهي تهتم بتأثيرها بغض النظر عن مضمونها .وحينما ينظر ماكلوهان إلى التاريخ يأخذ موقفا نستطيع أن نسميه الحتمية التكنولوجية .وبينما كان كارل ماركس يؤمن بالحتمية الاقتصادية وبأن التنظيم الاقتصادي للمجتمع يشكل جانبا أساسيا من جوانب حياته، وبينما كان فرويد يؤمن بأن الجنس يلعب دورا أساسيا في حياة الفرد والمجتمع، يؤمن عزي عبد الرحمن أن كل شيء تحكمه القيم حتى المخترعات التكنولوجية المهمة .لقد انتقل عزي من مرحلة التنظير لما ينبغي أن يكون إلى مرحلة وضع الأسس النظرية بناء على ما هو كائن، فلابد من تأطير الإعلام بما يتفق وطبيعة المجتمع .كما حدد مجال البحث، وهو المجال الفكري لأن الاختلالات الموجودة اليوم في العلم والمعرفة في الجانب النظري وعليه، فالصراع في ميدان الفكر قبل أن يبرز على مستوى المجسد، فهو مجرد قبل أن يصبح مجسدا. في تقاليد بحوت التأثير، وسائل الإعلام هي انعكاس للبنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في المجتمع، وتأثيرات وسائل الإعلام المحتملة لا يمكن دراستها بمعزل عن السياق الاجتماعي، وفي إشكالية التأثير في بحوث وسائل الإعلام، فإن وسائل الإعلام لم تترك العديد من المؤسسات الاجتماعية على الحياد، فالنقد والقلق حيال التأثيرات التي أوجدتها السينما والرسوم المتحركة والصحافة الشعبية أوجدت انشغالات بدور الأسرة الضروري، حيث أصبحت تتنافس مع وسائل الإعلام من أجل كسب ولاء الأطفال بعد شيوع مقولة ''إن الأولياء الجدد هم وسائل الإعلام'' .والحق أن هذه البحوث ظهرت في الغرب مسايرة لظهور المجتمع الجماهيري الذي تشكل على نطاق واسع والذي لم يسبق له مثيل في التاريخ، حيث أصبح غير قار ومتقلب وغير متجانس ومستلب (السعيد معيزة :أثر وسائل الإعلام على القيم والسلوكيات لدى الشباب، ص ص - 39 36) .من هنا يمكن لنا القول بأنه من بين الإضافات المهمة التي أتت بها نظرية الحتمية القيمية، هي تلك المتعلقة بالتأثير الذي تمارسه وسائل الإعلام على الجمهور، فالنظريات الإعلامية الامبريقية السابقة كالفجوة المعرفية والتأثير على مرحلتين والتطعيم والتلقيح، الإستعمالات والإشباعات، والحقنة تحت الجلدية... الخ، تفيد في تفسير الجوانب الجزئية فقط في علوم الإعلام والاتصال ولكنها لا تضمن أبعادا فلسفية واضحة، ولعل هذا النقص هو الذي أدى بعزي عبدالرحمن إلى دراسة الخلفية النظرية والفلسفية لهذه النظريات من منطلق أن الإتصال ظاهرة ذات أبعاد متعددة، وتجلياتها قد تكون فكرية أكثر منها أمبريقية (بوعلي نصير، مرجع سابق، ص66) .لذلك فدراسة الأثر لا يتم دون مرجعية تربط محتويات وسائل الإعلام بالقيم، وكلما كانت هذه الصلة وثيقة كلما كان التأثير إيجابيا والعكس صحيح (عزي عبدالرحمن، مرجع سابق، ص112) .من هذا المنطلق، فالجديد في نظرية عزي عبدالرحمن هو تقسيمه للتأثير إلى إيجابي وسلبي على غرار ما هو معروف في الدراسات الأمبريقية من تأثيرات كامنة وأخرى ظاهرة، تأثيرات مباشرة وأخرى غير مباشرة، تأثيرات المدى البعيد وتأثيرات المدى القصير ..إلخ (بوعلي نصير :المرجع السابق، ص 66). وما يمكن قوله أخيرا، إن هناك مفاتيح عدة لفهم نظرية الحتمية القيمية التي أسسها البروفيسور عبدالرحمن عزي (نصير بوعلي :مفاتيح نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، ص-ص 144 - 149)، وهي تتلخص في النقاط التالية: -1 نظرية الحتمية القيمية في الإعلام كبنية تتضمن عناصر البناء التالية: أ -علوم الإعلام والاتصال كمادة خام. ب -الفكر الاجتماعي المعاصر في القرن العشرين كمادة مستوردة. ج -التراث العربي الإسلامي على سبيل الاجتهاد وليس النقل كمادة محلية. د -القرآن الكريم بمثابة الإسمنت الذي يمسك النظرية بإحكام. -2أسبقية النظرية ككل على الأجزاء :فنظرية الحتمية القيمية في الإعلام هي ذلك الكل المركب من دراسات وأبحاث نظرية عبد الرحمن عزي، ويستحيل فهمها ما لم يكن هناك إلمام بعدد معتبر من دراساته التي تزيد عن خمسين دراسة تنطلق كلها تقريبا من إشكالية واحدة هي كيفية فهم الظاهرة الإتصالية والإعلامية فهما قيميا وحضاريا. -3أسبقية العلاقة على الأجزاء أو القيمة المحددة لها :تتضح هذه النظرية أكثر عند إمعاننا النظر في العلاقة التي تحكم دراسات عزي عبد الرحمن، لأن ذلك سيقود إلى التغلغل في الدواخل وتوليد المعاني العميقة للنظرية، وتعتبر القيمة هي الحلقة أو العلاقة بنيويا التي تمسك أبحاث المفكر وتجعلها مساقط لا تتحرك إلا ضمن دائرة النظرية. -4عناصر نظرية الحتمية القيمية لا تحمل أي معنى إلا في إطار السياق العام؛ أي يجب استحضار العوامل الاجتماعية والثقافية والحضارية والتاريخية التي ساعدت على تبلور هذه النظرية. وإجمالا، فإنه يمكن القول بأن نظرية الحتمية القيمة في الإعلام جمعت من الخصائص والركائز ما يجعلها نظرية قائمة بذاتها وتحمل بداخلها بذور الانتشار والتوسع عالميا لامتلاكها الأدوات والمنهجية التي تتيح ذلك، فهي برأينا ليست خاصة بالمجتمع الإسلامي وحده، وهذا مرده إلى أن هذه النظرية ترى بأن القيمة هي المحرك في التطور الحضاري لأي مجتمع، وبما أن الإعلام خطاب قيمي، فنظرية أستاذنا عبدالرحمن عزي تعد المخرج الأمثل لمأزق الإعلام العالمي وجمهوره، الذي بات يتخبط في الإسفاف والفساد والانحلال، ويساهم بشكل كبير في تمييع أخلاق المجتمعات وهدم القيم الفاضلة .فهذه النظرية تسعى إلى التعبير عن الذات والتميز الثقافي لأي ثقافة عالمية، لذلك من الممكن الاعتماد عليها في دراسة الاتصال بغض النظر عن طبيعة الثقافة أو مستواها .كما يجب أن ننوه بأن نظرية عزي عبدالرحمن تعد إسهاما عربيا وإسلاميا يعتد به من الناحية النظرية والفكرية، خصوصا وأن مجال التنظير في علوم الإعلام والاتصال يخلو من مساهمات العرب والمسلمين لعدة أسباب معروفة، فعزي عبدالرحمن فتح الباب على مصراعيه للتنظير في هذا العلم بناء على ثقافتنا وقيم مجتمعنا، ولئن كان هو بحد ذاته ينفي كون نظريته هي نظرية الإعلام الإسلامي، سواء من حيث المنهجية أو تفاعلها مع المعرفة الغربية، إلا أننا نرى أنها نظرية تضرب بجذورها في عمق ثقافتنا وقيم ديننا التي يحاول الإعلام الإسلامي تأسيس ركائزه عليها، خلافا للواقع الملوث الذي يعيش فيه الإعلام العربي بشكل عام، واشتمال مضامينه ومحتوياته ورسائله الإعلامية على الكثير من التجاوزات غير الأخلاقية، حيث يمارس هذا الإعلام تأثيراً سلبيا واعتداء ممنهجا على منظومة الأخلاق العربية الإسلامية، ويساهم بشكل محسوس في تسطيح اهتمامات الإنسان العربي وإعاقة نموه الثقافي والإجتماعي والسياسي، إضافة إلى تغييبه عن واقعه. وتبقى نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، لما أتت به من إضافات جديرة بالاحترام والدراسة، نظرية تبحث عن إيجاد مكان لها من ناحية الممارسة والتطبيق على أرض الواقع، وتغرينا بالسعي وراء معرفتها والتوغل في فهم أبعادها ومدلولاتها، لأنها بالإمكان أن تغنينا عن النظريات الإعلامية الأخرى التي لا نرتبط بها لا عقائديا ولا فكريا.