وأنت تتجول يوميا في بعض أسواقنا، لا تستطيع أن تغض بصرك عن رؤية بعض المشاهد التي اعتدنا عليها، خلال هذا الشهر الكريم، من ازدحام منقطع النظير للمواطنين الذين يتهافتون على مختلف أنواع الخضر والفواكه، كلّ حسب إمكاناته المادية وحتى المعنوية في أيام الحر الشديدة التي يؤدي فيها المسلمون فريضة الصوم. بالتأكيد، فالزائر لأسواقنا لا يمكنه كذلك غض البصر عن أولئك الذين اتخذوا من المزابل وأماكن رمي النفايات مصدرا ووسيلة لتأمين لقمة عيشهم على طريقتهم الخاصة، وبالطريقة التي فرضتها عليهم أوضاعهم المعيشية المزرية جدا. هكذا بدت لنا الصورة ونحن نقصد إحدى أسواق وسط العاصمة، حيث وجدنا عند مدخلها وبالتحديد في محيط مكان تفريغ القمامة، نساء طاعنات في السن، ينتظرن طول النهار أمام المزابل علّهن يجمعن بعضا من الأكل والخضر من الفضلات التي يرميها المواطن الميسور. ولعل ما لفت انتباهنا ونحن نحاول التحديق مطولا في صور ومناظر النسوة المنهمكات في تفتيش القمامات والاحتفاظ بما وجدن من أشياء صالحة للأكل، أو لنقل كل الأطباق والخضر وحتى الفواكه التي يفضل بعض المواطنين رميها في المزابل، هو أنهن غير مباليات بأعين المارة والمتسوقين التي ترمقهم، وحتى عندما يقترب منهن بعض المحسنين لمدهن ببعض الصدقة، يتفاجأن ويتوقفن على الفور عن عملية البحث عن الرزق من المزابل ويبادلن المحسنين التحية والشكر. وقد ترددنا قليلا في الاقتراب من النسوة المتسولات في المزابل لأننا كنا نخشى رد فعلهن عندما نبوح لهن بمهنتنا والغرض من مخاطبتهن، لكن فضولنا الصحفي ساعدنا كثيرا على التقدم من أول امرأة وهي عجوز في العقد السابع من عمرها، حيث قدمنا لها بعض الصدقة قبل أن نكشف لها سر تواجدنا في هذه اللحظة بالذات أمام القمامة التي تمثل مصدر رزقها بامتياز. وللأمانة كذلك، فقد كان رد فعل العجوز طبيعيا، حيث تجاوبت معنا عندما علمت سبب تواجدنا ومخاطبتها، بل بدت لنا وكأنها كانت تحسّ بأنها مهمشة ولا أحد يتحدث عن حالها ويومياتها مع المزابل والقمامات التي ألفت ''التسوق'' منها، فكانت هذه شهادات بعض النسوة. يمينة 70 سنة أم لثلاثة أبناء: أقتات من المزابل منذ 15 سنة عند وصولنا إلى عين المكان لم نجد أمام المزبلة بأحد أسواق العاصمة سوى عجوز علمنا فيما بعد أنها تبلغ من العمر 70 سنة وتقطن بأحد الشاليات ببومرداس، ''كما ترون فأنا أقطع المسافة بين بومرداس والعاصمة لألتقط من المزابل بعضا من الطعام، منذ حوالي 15 سنة''، وعندما سألناها إن كانت تستطيع تأمين قوتها مع أبنائها من قمامات المزابل، لم تتردد في التأكيد لنا ''أنا لديّ ثلاثة أبناء، ومع الأسف يتواجدون منذ سنوات بالسجن بعد أن تورطوا في عمليات سرقة، لذا تراني اليوم أعيش رفقة ابنتي المطلقة وحفيدتي، ولا داعي للقول أنني أعاني من حياة بائسة''. حكاية هذه العجوز ومعاناتها مع لقمة العيش لا تختزل فقط في يومياتها مع ما تجود به المزابل، بل أن الأمر يتعدى إلى شريط حياتها الذي كان قاتما، ''لقد هجرني زوجي منذ مدة وتزوج امرأة ثانية وترك لي الأبناء...''. علجية 69 سنة من بئر توتة : المزابل هي مصدر رزقي لم تختلف الشهادات التي أدلت بها عجوز أخرى تدعى علجية البالغة اليوم من العمر 69 سنة، حيث أعادت نفس العبارات التي سمعناها من قبل صديقتها يمينة باعتبارهما يؤمان نفس المزبلة للاسترزاق، ''لقد سدت أمامي كل الأبواب ولم أجد مصدرا أضمن به قوتي سوى البحث في الفضلات والقمامات، فأنا أم لأربعة أطفال، أحدهم يعاني من إعاقة، فيما فضل الآخرون الانصراف إلى حالهم غير مبالين بحالي''. وفضلا عن مشقة البحث عن لقمة العيش وسط القمامة، فإن العجوز علجية مطالبة بقطع العديد من الكيلومترات يوميا للوصول إلى المكان الذي تقتات منه، وهو ما حاولت التقليل منه ''لا تهمني المسافة التي أقطعها بل أن الأهم بالنسبة لي أن أجد ما أسد به رمقي، فأنا اليوم تقدمت في السن ولا يمكنني القيام بأي عمل آخر خارج التسول أو البحث عن لقمة العيش في المزابل''، هكذا رسمت لنا هذه العجوز حياتها التي تعيشها منذ عشريات من الزمن، ولم تخفِ عنا أن المزابل المحاذية للأسواق باتت تمثل بالنسبة لها المكان المفضل الذي لا تستطيع الاستغناء عنه حتى لا تموت جوعا. فاطمة الزهراء 72 سنة من العاصم :ة كنت أقصد المزابل خفية عن زوجي لعل ما شدنا إلى مشوار إحدى العجائز التي تحدثنا إليها بالمزبلة المتواجدة على مستوى سوق ''كلوزال'' بالعاصمة، هو بدايتها المبكرة في ممارسة مهنة جمع قوتها من المزابل، حيث تعود إلى حوالي 30 سنة خلت ''منذ ثلاث سنوات توفي زوجي، غير أنني بدأت التردد على المزابل والنفايات منذ عشريات كاملة من الزمن، خفية عن زوجي الذي لم يكن يعلم بذلك''. هكذا روت هذه العجوز رحلتها مع المزابل، مبررة لنا استمرارها، ''لا أملك سوى ولد واحد هو اليوم متزوج ويعيش بعيدا عني، ومع كبر سني لا أجد ما أسد به رمقي لولا ما تجود به المزابل عليّ يوميا، وبصراحة لا أستطيع أن أغادر هذا المكان''. لم نحاول مواصلة الحديث مع هذه العجوز لأن حكاياتها وما تبقى منها هي صورة مكررة لما سمعناه من سابقاتها، حيث تعددت أسبابهن وتوحدت حلولهن بل واختزلت في البحث عن لقمة العيش من المزابل.