الأحداث المتواصلة في مصر - كما يليق بكل الثورات الكبيرة - والتي هي في الوقت نفسه ذات خصائص مصرية أهمها تمحورها على النقاش القانوني المعبر عن ثقافة سلمية عميقة.. هذه الأحداث، التي قاربت أن تصبح أول ثورة داخل الثورة، بل هي كذلك، لا يضير الاعتراف - أعني لا يضير مراقبا مصريا أو عربيا الاعتراف - أن ما يحدث في “ميدان التحرير" هو ثورة النخبة بل النخب الليبرالية واليسارية والعلمانية داخل الدولة وفي المجتمع ضد أول عملية من نوعها في تاريخ مصر: “أخونة" الدولة. “الأخونة" التي من ضمنها “أسلمة" من نوع جديد لمصر بما هي نمط من السيطرة السياسية الفئوية لتحالف أصولي. لقد نجح الأصوليون في التحول إلى القوة الشعبية الأولى في مصر. هذا حصل قبل الانتخابات التي جرت بعد 25 جانفي 2011 في عملية تحول تاريخي كتب عنها علماء الاجتماع المصريون طويلا منذ النصف الثاني من السبعينيات وسجلها الصحافيون العرب والأجانب مرارا. لذلك لا يقلل من شرعية الثورة الثانية الجارية ضد “الإعلان الدستوري" القول إن الأكثرية الشعبية هي مع “الإخوان المسلمين" وحلفائهم السلفيين بينما الكتلة المقابلة رغم شعبيتها الأكيدة إلا أنها في الأساس ثورة النخبة المصرية في السياسة والثقافة والإعلام والقضاء ضد النزوع الاستفرادي ل«الإخوان". هذه النخبة التي تثور الآن بسبب ميولها والتزاماتها الديموقراطية والعلمانية أساسا - حتى لو كان بعضها آتيا من إرث ثقافة وطنية يسارية لا ديموقراطية أصبحت من الماضي الميت (مثل التاريخ “العسكري" ل«الإخوان") - هي نخبة مكرسة بل سائدة في بنية النتاج الثقافي الحديث لمصر.. هذه البنية التي لم يستطع “الإخوان" أن يُنتِجوا فيها على مدى ثمانين عاما ونيّف من تأسيسهم أيّ إسم كبير في الفنون والآداب والصحافة. هؤلاء الثائرون اليوم على الشعبوية “الإخوانية" هم “البنية الفوقية" للحداثة المصرية والموصولون عميقا بتراثها المتعدد الأوجه والمستويات. الفكرة الجوهرية في السجال المصري الدائر من زاوية العلمانيين والتي يردّدها العديد من المعلّقين المصريين هي أن صياغة الدستور كعقد سياسي واجتماعي لا تتم بالاستناد فقط إلى المعيار العددي بل أساسا يجب أن يكون الدستور حصيلة توافق معظم التيارات النوعية المعبِّرة عن شخصية البلد. باختصار، الدستور لا تصنعه “الجماهير" وحدها وإنما قادة الرأي بالمعنى الواسع للكلمة. وهذه ميزة الثورة الجديدة مع العلم أن ثورة 25 يناير صنعتها أساسا نخبة الطبقة الوسطى المصرية بما فيها كوادر “الإخوان". لكن الآن يحاول “الإخوان" أن يخطفوا الثورة فعلا.