تسارعت الأحداث في المنطقة العربية، فلم تمض إلا أسابيع على رحيل الرئيس التونسي المطرود من طرف شعبه حتى رحل الرئيس المصري وبنفس الطريقة وكما في تونس، فإن الثورة في مصر كانت مفاجئة وطبيعية، كانت شعبية وعميقة. الثورة في البلدين كانت نتيجة منطقية للأنظمة التي سيطرت على الحكم فكممت الأفواه، وأغلقت المنافذ السياسية والفكرية، انتشر فيها الفساد، نهب المال العام، انتشر البؤس، عمت البطالة، حوصر المجتمع بالإقصاء والقبضة الأمنية الحديدية.. أمام هذا الوضع المتأزم والخانق فإن الشعوب لم تخضع. كانت تتمرد كلما وجدت الفرصة هنا وهناك في السر وفي العلن. كان المجتمع، رغم القمع والظروف القاسية، ينمو ويتحرك متحديا جبروت الحكام. الثورة في مصر، كما في تونس، كانت شعبية جذرية شاملة عمودها الفقري جيل خاص من الشباب الحي المتعلم، شباب التكنولوجيا الإعلامية المتطورة المتصلة بالعالم وبالأحداث بعيدا عن الإنغلاق والرقابة الشعبية، شباب ينطق بلغة العصر بعيدا عن النمطية ولغة الخشب، يختلف في أفكاره ولغته عن جيل الكهول والشيوخ الذي تفاجأ بذلك السيل الجارف من الشباب يعبر بقوة في اندفاع عن طموحه وآماله، مطالبا في حقه في العيش الكريم، وفي المشاركة الفعلية في تسيير شؤون بلاده. انضم الشعب الذي قهرته الظروف الإجتماعية والإقتصادية والسياسية إلى الجيل الجديد في ثورته، تحدت الثورة الشعبية آلة القمع الجهنمية التي ردت على المتظاهرين بالعنف والهمجية معززة بآلة البلطجية التي يجندها النظام للقضاء على الثورة في المهد، ردت الثورة على آليات العنف والإستفزاز بهدوء وشجاعة، وعمل تنظيمي ممنهج في ميدان التحرير والشوارع الخلفية في القاهرة. وفي المدن الكبرى في كامل تراب مصر كان في قلب تلك الجماهير الحاشدة نخبة من الشباب العصري المتشبع بثقافة العصر السياسية والإجتماعية، من محامين وقضاة وأطباء ومهندسين يمثلون الطبقة الوسطى من الشباب، يحددون أهداف تلك الثورة وطبيعتها، يسطرون مبادئها كثورة شعبية أصيلة.. اتضح ذلك في المبادئ العشرة التي قدمتها تلك النخبة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، مبادئ سياسية ومستقبلية واضحة تتعلق أساسا بنظام الحكم وطبيعة الدولة، نظام حكم يقوم على الحرية، واحترام كرامة المواطن، وحقه في الوجود الحر في دولة عصرية بمقاييس العصر المتقدمة، جمهورية برلمانية بمؤسساتها العصرية يختارها الشعب الحر، يخضع فيها الحكم للمساءلة والمحاسبة مجردا من وسائل القمع الظالمة. لم تكن الثورة المصرية قطيعة بالمعنى السلبي للقطيعة، كانت قطيعة مع وضع فاسد، وفي نفس الوقت استمرارية لنضال الشعب المصري في تاريخه الحديث، استمرارية لثورة 1919 وثورة يوليو 1952، قطيعة مع السلبيات والإنزلاقات التي وقعت في طريق تلك الثورات نتيجة حداثة التجربة والتدخل الأجنبي ودخول إسرائيل على الخط كدولة مغتصبة عدوانية توسعية، كعنصر أساسي لزعزعة الإستقرار وزرع الفتن في المنطقة. اصطدمت ثورة 1919 بالتدخل الإنجليزي المباشر في القصر الملكي وبقاء احتلاله في قناة السويس، والعمل على عرقلة حكومة الوفد الوطنية وبالإخوان المسلمين الذني فتحوا جبهة الإغتيالات داخل مصر بتنظيمهم العسكري السري، كما اصطدمت ثورة يوليو 1952 بالتدخل الأوروبي الأمريكي بالعمل على تعطيل المشاريع الإستراتيجية الكبرى وتعبئة الرأي العام العالمي ضدها، مع شن الحروب العربية الإسرائيلية، فاصطدمت الثورة مع حلفاء الغرب من العرب المعتدلين، كما نسميهم اليوم، والرجعيين كما كان يطلق عليهم في ذلك العهد. جاءت ثورة مصر الحالية لتجاوز تلك العقبات التي واجهت الثورتين في الماضي بتقديم برنامج سياسي محدد، بهذا البرنامج الذي إذا تحقق نستطيع أن نسميها ثورة الحسم، فهي لم تقدم برنامجا تفصيليا للوضع العام وإنما قدمت تصورا لحل مشكلة الحكم جذريا بالإنتقال من نظام حكم استبدادي فئوي، عصبوي، إقطاعي سياسيا، إقتصاديا، واجتماعيا، إلى حكم عصري ديمقراطي حر تتساوى فيه الفرص والحقوق والواجبات لكل المصريين من غير تمييز ديني أو جهوي أو عرقي. طريق الثورة المصري، رغم انتصارها الوقتي، ليس محفوفا بالورود، وإنما بغابة من الأشواك والعقبات، فهي أمام نظام ترسخ منذ أربعين سنة، أطيح برأسه وما تزال جذوره وأسسه قائمة، نظام بني على البلطجية السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأمنية، فالمطالب المشتركة بين مكوناته هو هذه البلطجية التي ثار عليها الشعب المصري. مصير الثورة المصرية اليوم متعلق بالحسم في اختياراتها ومبادئها من غير تردد، وعدم السماح بالوقوع في أخطاء الثورات التي سبقتها، وتصفية النظام الذي أسقطته وتجنب الإٍقصاءات الخاطئة. ويبقى العامل الحاسم آنيا، في مصيرها هو مقدار التفاعل بين الجيل الجديد الذي فجر الثورة وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي ينتمي أعضاؤه إلى جيل شارك وجزء من نظامه. هذه هي المعركة الآتية والحاسمة في نجاحها أو إجهاضها، والمسؤولية في هذا على عاتق قيادة الجيش في المرحلة الإنتقالية.