توقفنا في المقال السابق عن “فلسفة الحرب" عند الأسئلة الآتية: ما السبيل إلى جعل العالم أكثر أمناً؟، أبنشر ثقافة التعارف والتسامح، أم بإنشاء نظام جديد يحترم إنسانية الإنسان، أم ببناء قوّة، لأن القوّة لا تردعها إلا القوّة وفق المنظور الغربي؟. قبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من تحديد مفهوم السّلام، فالسّلام يعني “حالة من التوافق تتحقق إذا توافر بين طرفين الانسجام، وعدم وجود العداوة أو التنافر"، وبعبارة أخرى، السّلام معناه غياب الحرب، وعندما تغيب الحرب يحضر الأمن، وتنتشر الطمأنينة، وتعمّ السكينة، وبالسّلم يستقر البدن وتهدأ النفس، ويسود البناء والتعمير، وترجع الثقة. وبما أن السّلام سلعة نادرة في حياة البشرية منذ القدم، لأن الوجود يقوم على التدافع، وتحصيل الحاجات يتطلب التنافس، والبقاء يتطلب الصّراع سواء في حياة الأفراد أو الجماعات أو الدول، والحل النهائي والأخير لهذا الصراع هو الحرب كما يقول المفكرون، مما يجعل نشر السّلام وتحقيقه على أرض الواقع أمراً صعباً، هنا التقت الرغبة في السلام والتوق إلى الأمان من طرف البشرية، بالبحث عن مشاريع وخطط، من شأنها أن تجعل السّلام حقيقة لا أحلاماً تلامس عقول الفلاسفة والمفكرين دون أن تجد لها صدى في واقع النّاس. لقد قدّم العديد من الفلاسفة والمفكرين رؤى وتصوّرات للتقليل من حدّة الحرب ونشر السّلام، وذلك عبر مشاريع لعل من أهمها على الإطلاق مشروع الفيلسوف “إيمانويل كانط" (1724 - 1804) الذي أطلق عليه اسم “مشروع السّلام الدائم"، وقبل مناقشة هذا المشروع لا بد من إعطاء الآراء الأخرى حقها، فهناك من الفلاسفة من كان يرى بأن التجارة ستضع حدّاً للحروب بين البشر، لأنّ البشرية تتفق على أن العمل التجاري لا بد أن تتوافر له بيئة أمن وسلام، وفي حالة الحرب تتعطل مصالح النّاس، وتضيع التجارة، وتقل قيمة الأموال، إلا أن أصحاب هذا الرأي غاب عنهم أن الإنسان التجاري هو إنسان أناني.. جشع، همه الوحيد هو الربح، والربح فقط، وشواهد التاريخ تشهد أن السبب الرئيسي للحرب هو البحث عن مصادر جديدة للثروة، أي أن الحرب تصبح عملا من أعمال التجارة. هناك أطروحة ظهرت مؤخراً تذهب إلى ربط السّلام بالديمقراطية، فالنظام الديمقراطي يقوم على أسس من بينها، أن الدول الديمقراطية تقوم أساساً على حالة انتخابية تنافسية منتظمة تعترف بمجموعة مدنيين متساوين في الحقوق، ويكون الشعب هو صاحب القرار، مما يجعل الرؤساء في النظام الديمقراطي مقيدين بمقاومة شعوبهم لتكاليف الحرب وضحاياها، كما أن تنوع المؤسسات والعلاقات في الدول الديمقراطية، وفيما بينها، يُوجد عوامل وتوازنات وضغوطاً متعارضة، الأمر الذي يمنع قيام الحرب، وهذا من شأنه توفير ثقافة الحوار والتفاوض، وبما أن التفاوض هو مفتاح التفاهم، والتفاهم هو طريق الصلح، فالحرب تصبح بعيدة الوقوع، حيث الدول الديمقراطية وفق هذا الرأي لا تحارب بعضها بعضاً، وبذلك تقل الحرب ويسود السّلام، إلا أن الواقع يكذب هذه الأطروحة، نعم قد لا تنشب الحروب بين الدول الديمقراطية، كما يدل على ذلك التاريخ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 إلى اليوم، وربما يرجع ذلك إلى التهديد السوفيتي للغرب خلال الحرب الباردة، والتهديد الإسلامي والصيني كما تسوق له الدعاية الغربية الآن، إلا أن الحرب موجودة ضد العالم الآخر غير الديمقراطي، فنجد العديد من التدخلات العسكرية في بنما ولبنان والعراق والصومال ورواندا وأفغانستان والسودان وليبيا ومالي وإبادة مسلمي كوسوفو، هذا دون أن ننسى الجرح الغائر في الجسد العربي فلسطين، كما نجد أن نشر الديمقراطية، أصبحت تُتخذ ذريعة لشنّ الحروب واحتلال الدول، وذلك حتى تصبح الديمقراطية نظاماً عالمياً، والنتيجة النهائية هو عالم بلا حروب.. هو عالم السلام الدائم، إلا أن هذه الرؤية للأسف لم تنقل العالم من الحرب إلى السّلام الدائم، بل كغيرها من الرؤى قسمت العالم إلى قسمين ديمقراطي وغير ديمقراطي، وأي تقسيم ثنائي هو في الحقيقة تأسيس للنزاع والصراع. السلام الدائم بين إيمانويل كانط وبرتراند راسل: يرى “كانط" في الحرب بأنها وضع البشرية الطبيعي، وبما أن الحرب جالبة للخراب والدمار، فلا بد من العثور على طريقة ما، تُمكن الدول من التعايش بانسجام، ومسؤولية إلغاء الحرب بحسب رأيه تقع على كاهل الأفراد وعاتق الدول من خلال الانخراط التدريجي باتجاه السّلام العالمي، ولا يكتب لهذا المشروع النجاح إلا بعد إخضاع أمور السياسة لقانون الأخلاق والسماع لصوت الضمير، وعلى البشرية أن تختار بين السّلام الدائم وسّلام المقابر والمدافن، وقد صاغ هذا المشروع في مجموعة من المواد هي كالآتي: 1- إن معاهدة من معاهدات السلام لا تعدُّ معاهدة إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب من جديد. 2- إن أي دولة مستقلة (صغيرة كانت أو كبيرة) لا يجوز أن تملكها دولة أخرى، بطريق الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة. 3- يجب أن تلغى الجيوش الدائمة إلغاء تاماً على مر الزمان. 4- يجب ألا تعقد قروض “ديون" وطنية من أجل المنازعات الخارجية للدولة. 5- لا يجوز لأي دولة أن تتدخل بالقوة في نظام دولة أخرى، أو في طريقة الحكم فيها. 6- لا يحق لأي دولة في حرب مع أخرى أن تستبيح لنفسها مع تلك الدولة القيام بأعمال عدائية - كالاغتيال والتسميم وخرق شروط التسليم والتحريض على الخيانة - من شأنها عند عودة السلم، فقدان الثقة بين الدولتين. أما “برتراند راسل" (1872- 1970) فيرى بأن العالم بحاجة إلى الحكمة والتعاون والعطف الإنساني بدرجة متساوية، وكل هذه الأمور يفتقر إليها العالم في الوقت الحالي، حيث يسود الصراع واللا الثقة بين شعوب العالم، وفي رأيه أن الحرب تعمّق وتزيد من المشاكل، حيث لا يمكن حل هذه المشاكل إلا بالتراضي والتخفيف التدريجي للحقد والخوف، وذلك بنشر الرخاء بين الجميع، حيث لا يحسد جزء من العالم جزءاً آخر، وإنشاء حكومة واحدة للعالم تحتكر القوات المسلحة، ومن ثم تستطيع فرض السّلام. ما يقال عن رؤية كانط في تحقيق السلام العالمي إنها رؤية تتسم بالمثالية لأنها جاءت في لحظة الانتصار، انتصار حلم في التحرر من سلطان الكنيسة وطغيان العائلات المالكة، هذا الحلم عبرت عنه مبادئ الثورة الفرنسية في شعاراتها المرفوعة (الحرية، المساواة والإخاء)، وهذا حال معظم فلاسفة الأنوار الذين عايشوا مرحلة بزوغ عصر النهضة، أما فيما يخص نظرة راسل فإنها تتميز بالواقعية، ربما لأنها جاءت في لحظة الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي في من له الأحقية في زعامة العالم، وتتجلى الواقعية بالأخص فيما يتعلق بنشر الرفاهية بين شعوب العالم، وضرورة خضوعها - أي الشعوب - إلى حكومة عالمية واحدة تحتكر القرار السياسي والقوة العسكرية، إلا أن السؤال المطروح، هل يتحقق السّلام حقاً بهذه الطريقة؟. قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من إقرار حقيقة مهمة غفل عنها الكثير من المفكرين والفلاسفة عندما بحثوا قضية السّلام، فبحثهم انصب على العلاقات بين الدول، والوسائل التي من شأنها أن تقلل من حدة التوتر والحروب فيما بينها، وتساعد على التفاهم والتعايش السلمي، إلا أنهم أهملوا الفرد الذي يعيش وسط هذه الجماعة (الدولة)، ذلك أن الفرد هو الصورة المصغرة للجماعة، فعندما يعيش في أمن واستقرار ينعكس ذلك على الجماعة بالطبع..، الحقيقة التي غفلوا عنها إذن هي أنه لا سلام للجماعة إلا إذا توافر أمن الفرد، ولا يتحقق أمن الفرد إلا بضمان معيشة لائقة وحياة كريمة، وأول شيء يجب تحقيقه هو التخفيف من حدّة الفقر، وذلك بالتوزيع العادل للثروة، والعمل على حماية الفقير من طغيان الأغنياء وأرباب المال، ذلك أن الحرب تنمو في حضن الظلم، ومن مظاهر الظلم الفقر، وعندما يتحقق أمن الفرد، يتحقق أمن وسلام الجماعة، والنتيجة في التحليل الأخير أنه لا سبيل إلى تحقيق سلام الجماعة العالمية إلا بتوافر العدل، فالسّلم ينمو في حضن العدل، والحرب تترعرع في حضن الظلم. إذن، الشرط الأساسي لإقامة السّلام الدائم ليس بوجود قوّة تحتكر القرار السياسي والقوّة العسكرية في العالم، وليس بوجود هيئة عالمية تُسيّر العالم، فهذه التجارب أثبت التاريخ فشلها مع مرور الزمن، إنما الشرط الأساسي لعالم بدون حروب هو إقامة العدل، ومحاولة التقليل من الظلم ومظاهره، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يجب على الجماعة العالمية إن أرادت أن تعيش في كنف الأمن والسّلام، أن تبادر كل جماعة، وبكل جرأة إلى إجراء قراءة نقدية لموروثها الثقافي، فهذه الثقافات للأسف فيها الكثير من الفوقية والاستعلاء (الأنا)، والنظر إلى الآخر نظرة عنصرية، فالأنا الأقوى والمتحضر والحر، والآخر هو الضعيف والهمجي والعبد، فمثل هذه الثقافة توسع الهوّة وتزيد من الشرخ بين المجموعات العالمية، كما تزرع الأحقاد والضغائن، وهي التي أدت إلى شن الحروب واحتلال الدول والاستيلاء على ثروات الشعوب بحجة إنقاذ الضعيف ونقل الحضارة إلى الهمجي وتحرير العبد. والنتيجة في التحليل الأخير أنّه لا سبيل إلى سلام دائم إلا بتقوية أواصر ووشائج الروابط بين شعوب العالم وذلك بمحو كل ما من شأنه إعاقة التقارب والحوار والتفاهم فيما بينها. من ناحية ثالثة، هناك ضرورة ملحة الآن قبل أي وقت مضى، وهي ضرورة إنشاء نظام عالمي جديد يقوم على العدل والمساواة واحترام الإنسان، ويعمل على إيجاد بيئة للتقارب والحوار والتفاهم لأجل العيش المشترك بين أبناء البشرية، ذلك أن النظام الحالي أثبت فشله في كل المستويات، فهو فاشل على المستوى السياسي، وعاجز على المستوى الاقتصادي، كما أنه أناني ولا أخلاقي ولا يحترم إنسانية الإنسان، حيث أصبح مصدراً للشرور والكوارث، فهو لا يبحث عن الحلول للمشاكل والأزمات المتراكمة في العالم، بل يفتعل الأزمات ويشن الحروب، لأنه لا يستطيع أن يبقى إلا بوجود الأزمة، ولا يستطيع أن يستمر إلا بوجود الحرب، وماذا تنتظر من عالم يتحكم فيه تجار الأسلحة..، هل يحبون أن تعيش البشرية في أمن واستقرار وسلام؟، ومن يريد الإجابة على ذلك، فما عليه إلا العودة إلى الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام في بحر الأسبوع الماضي، ليجد خبراً فيه الكثير من الاستخفاف بحياة الإنسانية ومستقبلها، من طرف العقل التجاري الذي يتحكم في العالم، الخبر يقول إن روسيا قدمت قرضاً بقيمة 1 مليار دولار لبنغلاديش من أجل ماذا..؟ ليس من أجل مشاريع تنموية في هذا البلد، وليس من أجل تحسين الظروف المعيشية للشعب البنغلاديشي الذي يعاني الفاقة والحاجة، بل من أجل شراء أسلحة روسية. الطريق إلى السّلام إذن، طريق صعبة وشاقة ومليئة بالأشواك والمخاطر، خاصة في هذا الزمن الذي يسيطر فيه الإنسان المحارب، والإنسان التجاري على مقاليد الحكم في العالم، وفي نفس الوقت هو طريق سهلة إذا توافرت الرغبة، الرغبة في الاعتراف بالآخر واحترامه، مهما كان جنسه ولونه ودينه، وهذا كله يحتاج إلى الإرادة، إرادة التحرر من إرث الماضي المعبأ بثقافة الحقد والكراهية، ومد جسور مستقبلية قائمة على الحب والتعايش والتسامح، كما أنه يحتاج إلى إرادة قوية في مقاومة مشاريع من يريدون جرّ البشرية إلى الانتحار في سبيل تحقيق رغبات وطموحات أنانية.