مما لاشك فيه، أن الإذاعة المسموعة، وبما لها من خصائص، تعد أحسن وأخطر وسيلة إعلامية جماهيرية ينتقل من خلالها الكلام الهادف والمعبر (الأخبار، الخطب، المحاضرات الأغاني...) وكل ما يتعلق بالكلمة المسموعة أو الصوت المحرك للمشاعر، تلك الوسيلة الإعلامية التي مازالت تلاحق الإنسان المستمع (غير الأصم) أينما حل وارتحل، منذ ظهورها في العهد الأعريقي، الذي تحولت فيه الإشارة إلى صوت والتي كانت تعرف ب (هيليوغراف) الخاص بتبادل الرسائل عن طريق الانعكاسات الضوئية للأشعة الشمسية، إلا أن هذه الطريقة لم تعمر طويلا، حتى ظهر (السيمافور) الذي استعمله زعماء القبائل الهندية المهاجرة نحو الشمال الأمريكي، في تبادل الرسائل بينهم، حيث عرفت هذه الوسيلة الاتصالية رواجا بين الجاليات الهندية والأمريكيين على نطاق واسع، خاصة أثناء الحرب الأمريكية (1861-1865). لكن مع ظهور (التلغراف الكهربائي) الذي تمكنت من خلاله المنظمة الأمريكية الدولية (1884) بالسيطرة على مختلف أجهزة الاتصالات بين الأجناس البشرية، تم تنظيم عمل وسير الإذاعة المعاصرة. التي بدأت تعرفها بعض الشعوب مع نهاية الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وبعد مؤتمر فرساي، تحديدا (1918). تلك الوسيلة التي ساعدت على توسيع مجال العلاقات الإنسانية بين سكان المعمورة، وذلك العمل التقني والتطور المعرفي العلمي، ساعد الباحثين في التوصل إلى اختراع جهاز إعلامي، وصف بالغريب، اصطلح على اسمه ب “التلفزيون". الذي عرف انتشارا سريعا عام (1951)، بناء على اتفاق تقني سياسي بين الولاياتالمتحدة واليابان، والذي بموجبه أصبح للتلفزيون مكانة إعلامية ووسيلة اتصال تنقل الأحداث بالصوت والصورة، تلك الوسيلة وتوابعها المسماة “السمعي البصري" حفزت العديد من الإعلاميين والباحثين بمراكز البحث في مجالات الاتصال والسياسة والاجتماع والدين والثقافة والاقتصاد، أن يولوها اهتماما فكريا حول معرفة رغبات الجمهور المرتبط بالإذاعة والتلفزيون ومدى القابلية الثقافية والسياسية لكل وسيلة إعلامية لدى الطبقات الاجتماعية المستهدفة والمستهلكة للمادة الإعلامية (أخبار، ثقافة، إشهار، سياسة) بهدف بسط نفوذ سياسة الأقوى. وتعتبر الجزائر من الدول السباقة في المعرفة بالإذاعة، حيث أدخلها الاستعمار الفرنسي عام 1924، وإن كانت موجهة أساسا إلى الأقلية الأوروبية من المعمرين، ونظرا للتطور السياسي والوعي الجماهيري المتزايد في المجتمع، بين الحربين، والمتمثل في تأسيس جمعيات وأحزاب سياسة، تطالب بالمساواة والحرية والاستقلال، حيث تفطن الاستعمار إلى ذلك، ففتح محطات إذاعية أخرى في قسنطية ووهران عام 1940، فاتحا مجالا إذاعيا باللغة الفرنسية واللسان المحلي الدارج عام 1943، موجه إلى السكان الأصليين الذين كان يطلق عليهم وصف “الأهالي" طبقا لقانون 1871 بهدف حصر الفكر السياسي الشعبي والوطني الجزائري. كما كانت أحداث (8 ماي 1945) المؤلمة محطة تاريخية مؤثرة في توجيه الإعلام الإذاعي نحو ما يخدم السياسة الاستعمارية، حيث انتقلت سلطة العمل تحت إشراف اللجنة الجزائرية للإذاعة، المتكونة من الحاكم العام، ممثلا للأقلية الأوروبية للمعرين، وممثلا آخرا عن الأغلبية من المسلمين الجزائريين. وفي عام 1948 عمدت السلطات الفرنسية الاستعمارية إلى فتح مجال إذاعي آخر ناطقا باللسان الأمازيغي، متوجسة الخوف من اندلاع حرب سيادية بالأسلحة والأمواج الإذاعية، لصاحب الحق، الشعب الجزائري، الذي كان له موعد مع القدر باندلاع ثورة التحرير المباركة عام 1954. تلك الثورة التي تعرف من خلالها الجزائريون على إذاعتهم المعبرة عن هويتهم وشخصيتهم الوطنية. هنا إذاعة الجزائر المكافحة “صوت جبهة التحرير الوطني تخاطبكم من قلب الجرائر"، “صوت الجزائر الحرة"، “هنا صوت الجزائر المجاهدة". بهذه الكلمات الجهادية والأصوات الثورية المدوية، تعرف الشعب الجزائري على إذاعته الوطنية، في أوج قلب ثورة التحرير المباركة. في أحد أيام الشتاء يوم 16/12/1956م لتأسيسها، بأمر من جيش التحرير وبقيادة حركة التسليح والاتصالات العامة وبإيعاز من القائد الشهيد الرمز العربي بلمهيدي (1923-1957) الذي تفطن لفكرة استغلال كفاءة عناصر سلاح الإشارة، إلى سلاح حرب الأمواج الإذاعية، فكلف المرحوم عبد الحفيظ بوصوف (1926- 1980) بإنجاز وتحقيق المشروع، الذي أحضر عتاده المجاهد القدير المرحوم مسعود زقار (1926-1987) الذي كانت تربطه علاقات خاصة برجال السياسة والمال والأعمال الغربيين والأمريكيين خاصة. والذي تمكن بكفاءته السياسية من اقتناء محطة إذاعية متنقلة على ظهر شاحنة من صنع أمريكي، ومن خلالها تم إنشاء إذاعة سرية متنقلة عبر الحدود الجزائرية المغربية، أربكت بصوتها السلطات الاستعمارية، مزعزعة النظام الفرنسي والعدو الاستعماري إعلاميا وإذاعيا (باللغة الفرنسية، العربية، الأمازيغية)، كما حركت مشاعر الدول الشقيقة والصديقة إلى مساعدة ومساندة كفاح الشعب الجزائري والوقوف إلى جانب ثورته التحريرية العادلة، فتعددت بمدنها وعواصمها المحطات الإذاعية المدوية “لصوت الجزائر المكافحة" فكانت (تطوان - الناظور - طنجة - وجدة - الرباط) بالمغرب، و(طرابلس بن غازي - مرسى مطروح) ليبيا، و(القاهرة صور العرب) بمصر، و( بغداد - دمشق - الخرطوم - الاردان - الكويت - السعودية - بكين - أكرا - كونا كرى)... وغيرها من الدول الداعية إلى الاستقلال وتحرير الشعوب. استهلت الإذاعة الوطنية الثورية الجزائرية رسالتها بإيقاض الروح الوطنية وترسيخ الأصالة والدعوة إلى الوحدة والتضامن ونشر العدالة الاجتماعية، وغيرها من الدعامات الثقافية والسياسية لحصانة الثوابت الوطنية وحماية الهوية. تلك الرسالة الثورية المقدسة التي فعلتها مجموعة من الشباب بالكلمة المعبرة والصوت المدوي المحرك للمشاعر، والتحكم في التقنيات العلمية (محمد الصوفي - محمد عيسى المسعودي - عبد المجيد مزيان - زهير احدادن - الهاشمي تجيني - رضي بن الشيخ الحسين - خالد سفير - مداني حواس - عبد القادر حساني - عبد العزيز شكيري - موسي سدار - على قزاز - عمر تريحي - عبد الكريم حسيني..) وغيرهم من السادة المجاهدين الإعلاميين والقادة العسكريين والعباقرة التقنيين لسلاح الإشارة وصناع القرارات الثورية والمؤسسين للإذاعة السرية (الثلاثي العربي بلمهيدي، عبد الحفيظ بوصوف، ومسعود زقار) لا رابع لهم. الإذاعة الجزائرية الحاضر الدائم في أحداث العالم تتحرر الجزائر ويحتفل الشعب بيوم الحرية والاستقلال (05/07/1962)، وتبدأ سلطات الدولة الجزائرية المستقلة في وضع القواعد الأساسية لبناء المؤسسات السيادية الحديثة، متخذة من المؤسسات الثقافية والتربوية والإعلامية وسيله لتعميق روح التضامن والترابط والمصالحة بين أفراد المجتمع الجزائري وما عاناه من ويلات الحرمان والتفكك والاندثار، فكانت البداية يوم 28 أكتوبر 1962 بتحرير الإذاعة ورفع راية الجزائر من قبل مجموعة من الإذاعيين والإعلاميين والتقنيين المجاهدين، والتحضير لقرار التأسيس الرسمي المؤرخ في الفاتح أوت 1963. الذي بموجبه أضيفت الإذاعة الوطنية الجزائرية إلى قائمة إذاعات الدول العربية والعالمية، منطلقة بمنظومة برامجية سيادية هادفة ومدعمة لتنميه الحس المدني الوطني، وتوعية المستمعين ومحاربة الأمية ومقاومة الجهل والفوارق الجهوية ومختلف المخلفات الاستعمارية، والاجتهاد بإرشاد الساكنة وتوعيتهم لتحمل المسؤولية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكل ما تعلق بسيادة البلاد وحضارة الأمة. وبالرغم من الاضطرابات السياسية والاجتماعية والارتجاجات الاقتصادية والثقافية وماحيك من مناورات داخلية ومؤامرات خارجية على الجزائر المستقلة حديثا (1963-1967) جعلت الإذاعة الجزائرية المخترقة من طرف جماعة (صوت البلاد) أن تسلك في رسالتها سياسة الحكمة والتوازن بالدفاع عن سيادة وحرمة الأمة والوحدة الترابية للوطن في إطار الوفاق الوطني والشرعية الدولية والإفريقية والعربية الإسلامية والاقلمية المغاربية، بتسخير واستغلال تلك الإمكانات الضعيفة الهشة المحدودة، البث والإرسال من محطات (الجزائر- وهران - قسطنية)، التي لا تقوى على تغطية الدولة القارة، مما دفع بالقيادة السياسية، وبناء على الدراسة والتقييم لذلك العمل الإذاعي التاريخي المشهود المتمثل في قرارات مجلس الثورة وبتولي الدكتور الحقوقي السياسي المتمرس المثقف المرحوم محمد الصديق بن يحيى (1932 - 1982) الذي تولى مسؤولية وزارة الثقافة والإعلام (1967-1970) والذي وضع القواعد الأساسية للإعلام الجزائري، فانطلقت مرحلة التحديث والتطوير واعتكفت الدولة على عصرنة الإذاعة وتحديث شبكة البث وتكوين الإطارات (الصحفية - والتقنية) بتخصيص أغلفة مالية تساير المخططات التنموية للبلاد (المخطط الثلاثي 1967 - 1969) والمخطط الرباعي الأول (1970-1973). بالرغم من تلك المهجودات المتعددة الجوانب والتي تميزت بها الإذاعة الوطنية، لم تتمكن من بلوغ الهدف الإذاعي الاحترافي والذي تعود أسبابه المباشرة وغير المباشر وبالدرجة الأساسية إلى إشراك وربط الإذاعة بالتلفزيون، حيث سادت سياسة المغالبة والتغول تحت غطاء “صورة وكلمة" مما أدى إلى الاستنزاف المالي للصورة على حساب الصوت وما ترتب عنها من التأخر الشامل وعدم مسايرة التطور الإعلامي العالمي الذي عرفتة مرحلة الثمانينيات المعروفة ب (حرب الأمواج وحرب الصور) والذي كان له انعكاس كبير على مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، أفضى إلى صدور مرسوم تنظيمي عام 1982 أعطي بموجبه اعتبار مهم للإذاعة، ساعد على إبراز الكفاءات والمواهب الإعلامية القريبة من المهنية والاحترافية، حيث عرفت المؤسسة العمومية، ذات الطابع الصناعي والتجاري، تجهيزات عصرية مكنتها من العمل الجاد لتغطية أجزاء كبيرة من التراب الوطني وتوصيل الكلمة الإعلامية المعبرة عن المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة الجزائرية، مرسمة ومرسخة هوية الإذاعة الجزائرية داخل الباقة العالمية والإقليمية والجهوية للإذاعات، واضعة سدا منيعا للغزو الإعلامي الإذاعي الأجنبي وبعض إذاعات الدول المجاورة التي استغلت فضاء المناطق المعزولة ردحا من الزمن، خاصة أثناء الأحداث والأزمات الدولية والإقلمية، حيث يدفع بالمستمعين إلى البحث عن كل ما يلبي رغبتهم ولو من المحطات الإذاعية الدولية المنافسة والموجهة ( Monte-Carlo-Medi 1 - BBC-France interne ..) الناطقة بالعربية والفرنسية، تلك الطفرة النوعية التي حققها إطارات الإذاعة الجدد، من جيل الجامعة الجزائرية ومدى غزارة الدراسات والبحوث المقنعة، مضمونا وتحليلا، والمقدمة إلى وزير الإعلام وصديق الصحفيين (المرحوم بشير رويس) الذي تولى مسؤولية وزارة الإعلام (1984-1988) الذي عرفت الصحافة في عهده تطورا كبيرا، تمثل في ظهور العديد من العناوين الجديدة وباعتبار الكلمة المسموعة أكثر إيحاء ورسوخا في الذاكرة، كان صدور المرسوم المؤرخ بيوم الفاتح يوليو 1986 الذي وضع من خلاله حدا للشراكة والتبعية والتغول المؤسساتي الإذاعي والتلفزيوني والبث والإنتاج، والذي يدخل أيضا في إطار المخطط الخماسي الثاني (1985 - 1989) المتضمن إعادة هيكلة المؤسسات العمومية، فانفصلت بموجبه الإذاعة، منتهجة استراتجية إذاعية إعلامية واضحة وهادفة، متجاوبة والتحولات الاجتماعية ومسايرة رغبات جيل الاستقلال المتعدد المواهب والمشارب والسياسات والايدلوجيات المحلية والإقلمية والدولية، بل على الفضاء الإعلامي العالمي المفتوح، الذي دفع بالإذاعة الوطنية المتمتعة بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، أن تتكفل بالمواطن وحقه في الإعلام والمشراكة في صنع القرار، المتعلق بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمخططات والمشاريع والتشريعات التي تقوم بها الدولة الجزائرية. تلك الاستراتجية التي تبنتها الإذاعة الوطنية تجاه الدولة والمجتمع، والتي كان فيها قانون الإعلام المؤرخ في (03/04/1990) محفزا قويا ساعد في إبراز العبقرية الفكرية للعمل الإذاعي والتقني، وتجديد المنهج الاستراتجي للإذاعة الوطنية في فضاء الإعلام المفتوح والتحولات السياسية الدولية والتطور التكنولوجي الملازم لمؤثرات العولمة الجارف، الذي تفطنت لخطره مجموعة من الإطارات الإذاعية الوطنية، من صنع الجامعة الجزائرية، في الانفلات والتوجه نحو تجسيد فكرة الإعلام الجواري المتمثل في الإذاعات المحلية، باعتبارها وسيلة اتصال جماهيرية ملازمة لأفراد المجتمع المشترك المصالح، المحدود المعالم، كالبلدية والدائرة والولاية والناحية والإقليم، وفق مخطط انجاز عمل هادف يحمل شعار “لكل ولاية إذاعة محلية" الرامي إلى تعزيز القدرات الشعبية وتوجيه المواطنين نحو المساهمة في مختلف النشاطات اليومية، ولاكتساب حس مدني محلي فعال. فالبرعم من مؤامرة السنوات العجاف والعشرية المأساوية التي حصدت العديد من الإذاعيين كالطيب بوترفيف وعلي عبود وأحمد يسعد وياسمين بريك رحمة الله عليهم، وغيرهم ممن زادوا قوة وعزيمة الدولة وإرادة الإعلاميين لأنهم كانوا دائما في الموعد لإنجاز وتجهيز وتدشين المحطات الإذاعية المحلية الثمانية والأربعين (48 إذاعة محلية ل48 ولاية) وفق ذلك البرنامج الطموح، الذي عرف دعما مميزا ضمن المخططات الإنمائية من العقد الأول للألفية الثالثة المتمثل في برنامج الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (الخماسي الأول 2005-2009) (والخماسي الثاني 2010-2014) المرتبط باحتفالات خمسينة الحرية والاستقلال، والتي ستخلدها مؤسسة الإذاعة الوطنية بنجاحاتها في تغطية جميع مناطق التراب الوطني، وبإسماع كل سامع (غير أصم) ومستمع بصوت الجرائر المستقلة من خلال 48 إذاعة محلية، إلى جانب القنوات الوطنية الأولى والثانية والثالثة والدولية والقرآن الكريم والثقافية وجيل جديد أي بمجموعة خمسا وخمسين (55) راديو عبر مختلف الوسائط، ومسايرة مختلف التكنولوجيات الحديثة بالانفتاح على عالم الإعلام الإذاعي الرقمي الآني السريع، مع الزمن والمستمع، المشكل لإذاعة المستقبل، ذلك العمل الإعلامي الإذاعي الذي فرض نفسه على الكليات والمدارس العليا والمعاهد المتخصصة، أن توليه اهتماما فكريا وعلميا، خاصة ما تعلق بالإعلام والاتصال والثقافة والاجتماع والتاريخ والقانون وكل ما جمعته تلك المذكرات والأطروحات والكتب والمؤلفات حول الإذاعة الوطنية الجزائرية، التي أصبحت مؤهلة لأن يكون لها معلما يشار إليه بدار الإذاعة ومتحف الإذاعة ومكتبة الإذاعة، بل مركزا للدراسات والبحوث الإذاعية، من أجل التطوير المستمر والدائم لتحديث البرامج وتعزيز المرجعية للمدرسة الإذاعية وترسيخ صوت الجزائر، في المنظومة العالمية ذات المستقبل الرقماني الواعد.