بلغني أيها القارئ السعيد؛ أن شهريار لم يَكن يُكن الكرهَ والسادية للنساء؛ كما روج عصر كارهيهن التقليدين من الرواة كلاّ، إنما كان يمقت الصمتَ، والليالي الصامتة، والصامتين. لقد كان شهريار يريد أن يقول من خلف حِجابِ ما اقترفه من جرائم: إن الكلام هو النقيض الرسميّ للموت، وإن أمة ساكتة متلعثمة خرساء، لا بد أن يكون مصيرها رهين القمع، وحبيس دقِّ الرقاب. هكذا إذن؛ طالب شهريار بالديمقراطية لشعبه؛ ولكن على طريقته؛ أقصد على طريقة الراوي الملتوية الرامزة؛ المتهيبة في دهاء. إن الكلام منجاة إذن، لقد استطاع أن يخلص شهرزاد من موت داهمٍ أكيد؛ كان يحدق بها، الكلام إذن هو سحر يستمد مفعوله؛ من تلك الخلطة سرية التي تعدها المعاني البارعة الواعية الجادة؛ المنضدة بعناية، في مخبر القول. الكلام لا الصمتُ هو الذي كسر سيف الجلاّد، كان عليه فقط في حالة شهرزاد الشهريارية، ألا يقفز قفزا على الطابوهات، ألا يتركها تشغل مكانة ومكانا رحبا في ضيق الحياة، هكذا كان ينبغي على الكلام أن يؤثث بفسحته؛ رحابة للخوض في المكبوتات؛ وهكذا أرادت شهرزاد من بعد إذن شهريار “راوي حال الأمة". إن الطابوهات، والحواجز التي ينصبها الخوف الفكري المحض أمام طريق الكلام؛ إنما هي ورم خبيث لا يستأصله من شأفته مثل مشرط الكلام. لكن الراوي وهو المتكلم ومع ذلك، وإن أجاد أول الأمر، في حكاية من حكاياته، أو في تعبير من تعابيره، فإن ذلك لا يعني بأنه سينجو قطعا، من القتل إن هو أساء، ولو بعد طول إجادة منه، وشهرزاد التي مثلت دور المواطن المثقف الواعي هنا، وكانت ناطقة باسم السياسي المعارض الشجاع، فهمت هذا جيدا، وأرادت تبليغه لمن بعدها؛ بعد ذلك على لسان الرواة الذين أنطقوها. إن الظلم كائن حي متحرك، دؤوب الطموح، كهربائي، لا يهدأ ولا يستريح، لا في الليل ولا في النهار، وعلى الإنسان إن أراد الحرية، أن يجاريه وبكلامه في ذلك، في عنفوانه وفي طاقته، لأن أول من سينال منه التعب هنا، أول من يغفل، هو من سيكون الضحية الأبدية التي تنمو في الأنياب والمخالب. لقد كان ديك الألف ليلة والليلة؛ على ما يبدو؛ محض رمزٍ يدل على وجوب الانتباه إلى حدود القول، وإلى ضرورة فهم أن الكلمات هي الفارماكون “الداء والدواء"، لذلك فإنه ينبغي صبها بجرعات مدروسة، ديك ألف ليلة وليلة كان وعلى النقيض مقص الرقابة كذلك؛ الذي استعمله الراوي، وتقفيلة مثيرة للجدل على كل حال؛ اهتدى إليها ناسج الليالي، إنه إشارة ذكية على دهاء فن المعارضة في خفاء الليل، وحيلة التواري خلف الرمز، لأنه ومع الفجر تشرق شمس الجلاد التي تكشف خبايا الكلمات ونواياها وتسبرها وتستقصيها. هكذا كان شهريار وشهرزاد معه؛ مسؤولان على شخصياتهما، وعلى كلامهما، كل ذلك لاستدراج الغارقين في لجج الصمت إلى بر الكلام. بعيدا عن شهريار، ولكن قريبا من ألف ليلة وليلة؛ كان السيد بورخيس المعروف بولعه الشديد بألف ليلة وليلة، لا يعرف يقينا، وحتى أواخر أيامه، إن كان هو من يكتب ما يكتبه أم بورخيس! لذلك فقد أعلنها في غير ما مرة بأنه غير مسؤول عن كلماته التي يكتب، لا قانونيا، ولا حتى أدبيا، وهذا ضرب آخر من المطالبة بالإفساح للكلام، ودرجة عالية من المحاولة للتمكين لحرية الرأي، فنحن ننطق وفي كثير من أحوال كتاباتنا، بدل آخرين غيرنا، ممن لا يراهنون على سلطة الكلام، وممن لا يجرؤون عليه. لقد كان بورخيس يخشى من أن يكون مالك السلطة المطلقة على شخصياته، لهذا ربما؛ أخلى كل مسؤولية له على أبطاله الورقيين خشية أن ينالوا منه في الواقع، لما يمروا عبر قناة الرمز، ليصيروا أفعالا وشخوصا حقيقية. لذلك فأنا أفكر أحيانا، في أننا شخصيات افتراضية، تزاول عالما آخر، في معترك الحياة الطبيعية الواقعية لشخصياتنا الورقية. أفكر في أن هناك عالمٌ آخرٌ، تؤثثه تلك الشخصيات الورقية التي عجت بها الروايات الأدبية، من أدنى الجحش الذهبي إلى أقصى قصيد في التذلل، عالمٌ يكون فيه أبوليوس، و نجيب محفوظ، وغابريال غارسيا، وأورهان باموك، وعمي الطاهر وطار وأمثالهم في الناس، شخصيات منقادة لسلطة نفوذ شخصياتهم لا غير. الكُتاب هل هم مسؤولون، على سلامة تصرف أبطالهم الورقيين، الذين سيتحولون ربما إلى كائنات حقيقية في ذوات القراء ومن حولهم؟ ثم ماذا لو مشت الشخصيات الورقية ذات يوم في مسيرة، وطالبت بمحاكمة مُضطهديها، ومغيري وجهتها الحقيقية من الكُتّاب؟ أي مُعتقل سيسع الأدباء حينها؟ جامعة تيزي وزو