قالها “خوان رامون خمينيث": “جمهور الشعر قلَّة هائلة". هو أحد الرموز الدالة في الشعر الاسباني المنتسب عضويا لجيل 27 الأدبي نهاية العشرية الثالثة من القرن الماضي من الكتاب الإسبان التي ضمت الشاعر الشهيد كارسيا لوركا، ورافائيل البيرتي، خورجي جيين، بيدرو ساليناس، داماسو ألونسو، خيراردو دييجو ، لويس ثيرنودا، بيثنتي أليكساندري، مانويل ألتولاجيرى، إميليو برادوس وآخرون، كلهم ناضلوا وبإصرار المناضل المكافح ضد الديكتاتورية الفرنكوية. وعرفوا تجربة الاعتقال والمنافي. وقالها “خوان رامون خمينيث" وهو المدرك لقيمة الشعر وحضوره في الوجدان الإنساني، الشعر حالة إنسانية بامتياز لأنه يعكس بجدارة قلق الإنسان على هذه الأرض ويستشرف المستقبل ويرسخ الحلم والأمل مادام ينتصر دوما لقيم العدل والعقل والجمال،لأجل هذه الاستعارات أجمع الشعراء منذ الأزل والآن في القارات الخمس على استمرار جمرة القصيدة الحارقة الحاملة لمشعل الحرية في اولمبياد العبارة السامقة. «جمهور الشعر قلَّة هائلة" على ما يبدو، وهناك من ربط مصير الشعر باقتصاديات السوق واستهامات العولمة -ظلما وعدوانا فعل- وأعلن أن الشعر بضاعة كاسدة. وكأنه يزج بالشعر في سوق البورصة وتقلباتها، وجبن اللاإحساس الذي يعانيه الرأسمال ومريديه من رموز الليبيرالية المتوحشة ومرابي المرحلة وأغنياء الحرب، فهو بلا قلب -أقصد الرأسمال- في كل الأحوال ولا يحتاج لخفقان، والشعر كان ولا يزال وسيظل أساسه وأفقه القلب والخفقان والأفق الفسيح والرحب، والسماوات العالية والهواء النقي والطلق. حنا مينة الروائي السوري منذ ربع قرن من الزمن أو أكثر اعتبر أن الرواية الآن هي ديوان العرب، قالها استنادا إلى اتساع كتاب وقراء هذا الجنس الأدبي المستحدث في الحقل الإبداعي العربي. لكن هذا القول لم يلغ ريادة الشعر وسيادته واحتلاله مكانة الصدارة، شئنا أم أبينا، لا يزال للشعر آذانا صاغية تحتفي بالاستماع إليه والاستمتاع به لترقص الروح على تقاطعات مبناه ومعناه، لا يزال الشعر قادرا على السحر ولا يزال جذاب حد اللامتناهي مادام مفعما بعمق صدق الإحساس. استغرب كيف يمكن للشعر، هذا الصوت العميق الآتي من جذور ووجدان الناس الضارب في عمق التاريخ والوجود وتعدد أرخبيلات الجغرافيا أن يخضع لمنطق الربح والخسارة، أن يصبح هكذا ودفعة واحدة تجارة..! يصبح تجارة وسلعة في مهب ريح سوق شرسة. الناشر / المنشار -ليس كل ناشر على أية حال- الذي لا يملك أي أفق -ربما لأنه لا يحتاج إليه أساسا- أو حس ثقافي أو معرفي أول ضحاياه هو الشعر باقي أجناس الأدب وأشكال الكتابة والتعبير والإبداع هي الأخرى لم تسلم ولن تسلم من عقليته الاختزالية والتجارية. بالتجربة اكتشفت أكاذيب بعض دور النشر التي قالت إنها لا تنشر الشعر، اتضح لي فيما بعد أنها تنشر دواوين شعرية بمقابل مادي، هذه التجربة الصادمة عشتها مع أكثر من دار للنشر يخجل المرء من ذكر إسمها واسم مدرائها، مثل هذه الدور للنشر مقابل مبالغ مالية تستطيع أن تنشر كتبا تحريفية في التاريخ والجغرافية والشريعة والموت والحياة، كتب عن الدجل والشعوذة والرياء والقبر والتنظير لعذاباته فالأمر عندها سيان مادامت تقبض وتمتص كخفاش دم الكاتب وعرق تعبه، تنشر ولا توزع ولا تنتبه مطلقا لترويج هذا المنتوج وتسويقه رغم أن هذه الأدبيات تدخل في صميم ثقافة الرأسمال وادعاءاته... وإذا كان واقع الحال صادما إلى هذا الحد وأكثر، ما الذي بقي للشاعر أن يقوله..؟! يبقى ما قاله شيللير مرة: “الشعراء يحطمون إضراب التاريخ". وما قاله هولدلرين في مرة أخرى: “ما تبقى يؤسسها الشعراء". وما قاله الشاعر المغربي المهدي أخريف في نازلة ما: “لا حياء في الشعر". وبمعنى آخر، أدق، قد يكون القصد والعبارة “لا حياة لمن تنادي"، لا حياة لهذا النوع من دور النشر التي تمتص دم شعراء يخطون خطواتهم بإصرار على درب القصيد والقصيدة، رأسمالهم الرمزي الذي لا يفنى حب الشعر ومعرفته، ورغبتهم الأكيدة في الانتساب إلى دوحة الشعر الشريفة. وبالمحصلة سيبقى الشعر ما بقي الشاعر وما بقيت الحياة والأرض وما بقي الإنسان، ما بقي جدل النهار والليل قائمين، مادام الشاعر يتنفس الهواء والاستعارات وينتج الصور ويرقص الخيال والمخيال، مادامت القصيدة تكبر وتنمو وتكابر جراحاتها بفيض المعنى وموسيقى الإشارات. سيبقى الشعر، وسيواصل الشاعر حلمه، وستحلق القصيدة عاليا في الهواء الطلق، وإن ظل جمهور الشعر قلة هائلة. إدريس علوش هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته