«مشروعكم طوباوي لن يحقق شيئا وستقذفون بنا نحو هوة فراغ سحيق ولن نعثر لا على عدل ولا على مساواة ولا على حرية"، هكذا سمعت يوما صحافيا يرمي بكلامه الواثق على السمع وعلى الوجه رئيس حزب سياسي ملأ برنامجه بالإنشاء وصناعة الكلام والاستطرادات. كلمة “الطوبيا" أو “اليوطوبيا" سخية جاءت، معطاة، ومتوترة، لقد عنت عند ذلك الصحافي كل ما هو سلبي، فراغ، ولا حقيقي، شغلت الطوبى الناس المتعلمين في العالم الغربي فليست هي اصطلاحا ممجوجا أو رؤية خاوية على عرشها أو أدبا ميتا كالبحر الميت لا يحيل على بيان أو خلاصة أو خبر يقين، في العالم الغربي لا توجد هكذا فجاجات وخطابات غير مبنية وطوبى سحيقة في ظلامها، بل حتى السريالية كانت تذهب إلى المعنى واثقة وتجد لها الجمهور والذواقة والرموز، فقط العالم الشرقي هو الذي يمكن له أن يرتمي في السديم، في اليباس، في الطوبى الشرقية المفرغة المعالم والتصورات والمفتقدة إلى حبكة ونسيج وشبكة تواصلات ومعنى. إنَّ من يقرأ “الطوبيا والطوباويون" ينشد إلى هذه الحدائق المعلقة وجنائن الذوق المتنوعة، نقر كلمة وضرب وتر حرك به تييري باكوريشته لا تخفى عليه خافية ولا يختبئ عنه سر، إنه لا ينشز عن مفهوم الحلم ولا عن مفهوم السعادة ولا عن مفهوم الإنسان الذي يستحق الأفضل، العالم الذي يمور بالسعادة والمحبة والموسيقى. تييري باكو يذكر بالعقد الفريد لابن عبد ربه، كما يذكر بصيد الخاطر لابن الجوزي، إنه يجيز لك الإبحار في المبهم والغامض والروحي كما يحملك على حقيقة ما قد تكون مسيحانية، لاهوتية، ووعيا أخلاقيا، رغم التعاريف المستقاة من محيطات قاموسية كثيرة التفريعات لكن محاولة باكو هي محاولة من يهوى جمع قطع البزل “PUZELE" وتوحيد معنى جامع لإحالات تكون أبعد من مجرد أضغاث أحلام أو مسٌ جن وجنون. مازال مطلوبا في هذا الراهن تخليص الطوبيا من الأوهام ومن الخطوط الوهمية والمشاريع السياسية أو التربوية غير المسؤولة والبرامج المستحقة والمبالغ فيها، حتى تعاد إليها قدراتها التجريبية ورؤيتها النقدية وبعدها الاستشراقي واحتمالاتها البديلة البناءة والخلاقة، هكذا يقول هو ويكرر. لقد أحجم هنري ديروش (1914-1994) كما يقول تييري باكر عن وضع تعريف لها يكون هو جوهرها، منطلقها وأسَّها، لكنها ليست رياضيات ولا ميكانيكا حرارية ولا فيزياء مسلية بل هي أشبه بالعمل الديني كما تقول الصوفية الإسلامية فهي التدرب والرجاء والاختيار والمبادرة، وهي الرهانات نفسها التي يحرك فيها الفكر الأخلاقي المعاصر همومه واهتماماته كما اصطلاحاته وآليات عمله من داخل منظوماته، وعلى مدار صفحات عدة كانت النتيجة باهرة مع هذا الموضوع الغريب، العصي، التأهلي، السري، فكونها شيئا -وأعني الطوبى- لا يعني إلا توصيفها بالحياة الباطنية للأشياء، لقد استند الدين عليها ولعب على أرضها وتخلَّق بطباعها ورؤاها ومزاعمها أيضا. إن الطوبيا تتضمن المعنى شبه الديني أقله في الرمز الذي تفتقده المادية المسيطرة والذي سوف تحاول الثقافة المضادة الأمريكية وبعض مظاهر حركة ماي68 في فرنسا أن تبلوره، وتبعث به كمنحى بديل لمجتمع استهلاكي آخر في الابتعاد عن مجتمعيته ولذلك ظهرت أعمال كثيرة تبرز القلق المتزايد من الثورة التواصلية في التقنية والآلة إن لم ينشأ الاهتمام بترقية الذات وتفعيل التنمية وتسييج الفضاء المديني بالتجارب الاجتماعية الجديدة، لقد أحصى أحدهم حوالي أكثر من 12000 تجربة واشتغالا في ميدان الصحة ووسائل الإعلام المستقلة والتربية والسياحة الخضراء، غير النصوص المكتوبة التي تتوالى تباعا غير مكترثة بما أسمته مجلة “ماغازين ليبرير" عن نهاية اليوطوبيا، بل راح كثيرون يسوَّدون الصحائف عن انتفاضة المعنى، وعن الطوبيا الجديدة وعن الطوبيا القابلة للتحقق وعن عودة الطوبيا.. عندما قال الصحافي الذي ينتمي إلى المجتمع الشرقي باستبداديته وبطرياركيته كلاما لا غبار عليه لذلك الحزبي التافه لم يكن في الأمر استعمالية أو إرادة توظيف أو مجرد نقد تشويهي، بل هو صواب الحقيقة مكشوف، فمناخ اليوطوبيا في الثقافة العربية عديم الجدوى، فهو ملفوظات، كلام في كلام، تأليف على اللغة ونحت غبي يصيب الواحد فينا بسهاد الليالي وينيم وجهه في الرمل. هل يوجد عندنا أدب طوباوي غير تراثي على هذا الاتجاه الذي يشتغل به تييري باكو أو جاك أتالي أو ألبير جاكار، أقول لا طبعا فنحن نعشق المشاريع الجاهزة، الرومانسية الثورية كما نتعشق اللغة الفضفاضة التي لا توصل ليلا بليلى ولا ليلى بليلتها. إن الفرنسيين الذين أمكنهم رصد آلاف الموضوعات التي تطابق المكان وتتناسب مع الحيز وتؤدي إلى منظومة اشتغال كاملة الأوصاف مع ظاهرة اليوطوبيا لا بوصفها هوة الفراغ السديمي الذي يشبه ليل العرب وأغنياتهم الكلثومية بل هي القيمة والمثل والرمز والعمل المدني والمديني الذي يعضد ثورة خضراء تفكر في المحيط، وتفكر في ناس المحيط، أين وصلنا في التفكير اليومي، ماذا يفعل عقلنا اليومي بعد استفاقته الصباحية، لقد توضحت لي الصورة أكثر أننا عربيا لاننتج التأمل ولو على جبهة التنظير، وسنواصل اللامبالاة حيال وقائع ومشاهدات ورقائق صغيرة كأنها أكاذيب أو ترف أو هي ما يأتي من الغرب ولا نحسن هضمه أو قراءة وصفته الطبية، فإلى اليوم لم نستطع إقحام فوكو وأفاعيله الفكرية في المعيش اليومي، الجنون والمجانين وهم يملأون عالمنا العربي، وضعية الطب النفسي والخطاب الاستشفائي وضعية المدرسة وما يصنع داخلها من عنف، فضلا عن الجمعيات السرية غير التنظيمية التي تتزايد نشأتها عندنا ولم تستطع المرجعية المشيخية في الفكر والفلسفة والدين شحذ الجهد والهمة في بلورتها كطوبى عربية لا تنسخ المنطوق الغربي أو تتأوله بل تستنطق دواخلها، نبضها الخافت، وملامحها الظاهرة. إننا نعتبر هذا العمل التفكيري الغائب والذي يمكن وسمه بالمذهل في ثقافتنا هو الهامش الذي يعرف حراكا وفعالية وذهابا في التوسعة الجغرافية ولكننا نماطل فيه ونخشاه ونصادره، فالطوباوي عندنا هكذا غير متشكل وغير مشغول وعصي، بل إن القراءات الأصولية تحجب عنا هذا التعاطي المثمر مع ما يدور حولنا ومن حولنا واستنهاض الصموت والراكد والعابر، فعلى الأقل الممكن ينشغل الفكر العربي بالأزمات والتنظيرات للخروج من مآزق الراهن لكنه يركن جانبا الحساسيات والطبقات المعتمة والكائنات الصغيرة والموضوعات ذات الجانب الواحد، إذ لا يوجد تفكير في الطوبي ومشروعيتها ضمن الحقل العام. إن العرب لم يكتبوا ذاتهم إلا استثناء ما كتبه عنهم الرحالة والمستشرقون ولم يملكوا هذه اللغة الداخلية التي لا تأتيهم من القواميس والدواوين ولا من الخيالات المجحفة بل من الظواهر البرانية الكثيرة التي تناهت عند أبصارهم ولم يلقفها القلب والحدس والتجربة، أرني أعمالا في التنجيم والأبراج التي يبرع لبنانيون في طباعة الآلاف منها، أرني قراءات متفطنة لعالم الجاز وهو يزداد انتشارا بين الشبان العرب، أرني حوصلة كثيفة للنسوية العربية بعد نوال السعداوي، أرني كتابا مهما في سيرة بورجوازي عربي معروف استثناء ما كتبه الصحافي الباكستاني ريز خان عن الوليد بن طلال، أرني عملا دقيقا، محكم الوصف وذكيا في الطرق الصوفية واستراتيجياتها استثناء ما كتبه عبد الله حمودي في الشيخ والمريد، أرني تفكيرا كالذي يحاول التفرغ له أو ليفيه رواعن “ما بعد الاسلاموية"، أرني عملا بالغ المدلول عن البزات والألبسة الرسمية والنشاطات البروتوكولية وخصائصها، أرني مرجعا هاما وسفرا لا يطاله النقص الذميم عن عالم البحارة وحركة البواخر وعالم البحارين وكذلك عن الماسونية وأنديتهم، الإجابات موجودة لا تخلو من أصفار، المتابعات قليلة، الصحافة الثقافية نائمة في سباتها الجاهل وكل شيء يفضح عطل العقل العربي وانغلاقه بالشمع الأحمر، وتأتي النصوص الفرنسية الغزيرة وكذلك المجلات المتخصصة كي تثبت انقراضنا وغيبتنا عن عالمنا المزدهي الولود، الذي نفشل يوميا في بلوغ مرتبته، أيكون ذلك السر في هجرات تحدث وهروبات تتواصل، إنه التفكير في العالم الآخر، تأمل ما فعلته “زها حديد" المهندسة البارعة لقد جعلت العالم أطلانطيد موزع في هندسات غرائبية لا تنتهي لسبب بسيط هو أن الكرة الأرضية هي هكذا مدورة والأشكال تابعة لذلك تأتي، فكل واحد فينا سيأخذ ما يليق به وبشكله باحثا عن السعادة أو الطوبى، أي الزمن الذي نحب أن نرجع إليه كحالمين مترفعين متموقعين في المنطقة الوسط بين الصوفية والسريالية..