نفتح في عددنا هذا من الملحق الثقافي موضوع المثقف العربي والتداعيات السياسية العربية الأخيرة.. لنطرح عددا من التساؤلات.. هل ينمو أمام أعيننا مثقف جديد يحمل سمات بيئة جديدة وخصوصيات مختلفة عن المثقف الكلاسيكي أو الأيدلوجي أو حتى الوظيفي بتعبير غرامشي؟ هل الثورات العربية الأخيرة والتي كان ميدانها شبكات التواصل الاجتماعي سحبت البساط من المثقف ونسبت إليها الثقافة والوعي السياسي الذي حقّق أهدافه في وقت قصير مقارنة بالنضال الثقافي الذي تبناه طويلا المثقف؟؟ من هو هذا المثقف الافتراضي؟؟ هل من معنى جديد للمعرفة ومن ثمّة الثقافة.. هل المثقف مرتبط بالمعرفة الموسوعية أم يمكنه أن يسأل غوغل في كليك واحد ومن ثمّة يدّعي المعرفة؟؟ قبل كل هذا ما هي بنية العالم الافتراضي وما هي إسقاطاته الثقافية والسياسية؟ العالم الافتراضي.. والطباوية الجديدة جاءت الأنترنت إلى العالم في محاولة دفاع عسكرية ليس إلا.. غالبية التكنولوجيات تتطور هناك قبل "الهنا" والهناك هو العسكر والحروب والدمار، أما الهنا فهي المدنية التي نتوهّمها.. وعلى ذكر توهم العالم الافتراضي فالعالم الافتراضي لا يمكن أن يعد جزءا من الواقع الفيزيائي الذي نقيم فيه، والذي تتجاوزنا فيه أدواتنا، كما لا يمكن أن يتمتع بكيان منفرد بذاته في الحاسوب أو شبكات المعلومات، وأقرب ما يوصف به هو كونه عبارة عن كيان تتوهمه العقول البشرية مبني على الخاصية التي وفّرتها تقنيات السطح البيئي المعلوماتي Interface de la technologie معتمدة على ترجمة سيل يانات والمعلومات الرقمية، إنه تعيّن بلا مكان سوى في بقع الإدراك الموجودة في العقل البشري. وهذا يحملنا إلى نظرية موتازية لا تختلف عن طوباوية أفلاطون أو بن الطفيل، تلك الطباويات الموازية لعالمنا الحقيقي والتي تتمتع بالفضيلة، لذا سميت المدينة الفاضلة.. هذا النقاش طرح في أمريكا مهد الأنترنت في القرن الماضي، حيث اعتبرت جمعية Electronic rontier fondation أن الأنترنت هو الفضاء السيبرني هو أساس تطور الإنسانية والمكان النهائي الذي ستزول فيه جميع أنواع الرقابة، كانوا يدافعون عن حضارة جديدة، حضارة العقل والفكر التي هي أكثر إنسانية وعدلا من الحضارات التي ولّدتها السياسة والحكومات عبر التاريخ، وهي حضارة ما فوق الحدود، مرنة غير قابلة للحجز مثل الإلكترونات تماما، الشبكة بالنسبة لهم مثالاً للحياة الطوباوية التي ظل الفلاسفة يحلمون بها وحققتها التقنية حسب زعيمهم Timothy may. إذن الأدوات تتجاوزنا بالفعل، والمسألة قد تخطو فكرتنا الأولى وتصير مسألة فلسفية جديدة بالفعل. الشباب.. والتكنولوجيات السياسية تبلغ نسبة الشباب في العالم العربي أكثر من 60 بالمئة من عدد السكان ويبلغ عدد الفئات العمرية بين 15 و29 سنة حسب إحصائيات اليونيسكو لعام 2009 حوالي 113 مليون شخص، هذه القوى البشرية الرهيبة يمكنها بالفعل قلب الأنظمة العربية، وهو بالفعل ما يحدث.. لكننا نريد إحصائيات حول استعمال الأنترنت كأمر أولي ومن ثمّة معرفة حدود المعلومات التي يكتسبها الشباب في الوطن العربي.. قد يكون من المبالغ فيه أن نعتبر هؤلاء مثقفين بالمفهوم القديم للثقافة.. لكنهم مثقفين وفق معطيات معينة.. فالمثقف الجديد مثقف عابر للحدود يتواصل في نطاق واسع ولا تمارس عليه سلطة ايديولوجية حتى لا نقول سلطة قمع في حرية الوصول لكامل المواقع على الأنترنت.. أيضا هو لا يفقه الأيديولوجية بمفهومها الثنائي القديم وإنما يعيش وفق أبديولوجية واحدة هي التي تسير العالم، كذلك يتمتع بخاصية التفاعلية، لأن المثقف في جانب كبير منه هو مثقف حدد نسله مسبقا.. وقطع روابطه مع السياسة مع نهاية الحروب العربية... عدد من المثقفين العرب والجزائريين يناقشون معنا هذا الموضوع ومن زوايا مختلفة. هاجر.ق/حياة.س عمار يزلي: ثورة الشباب.. هي ثورة ثقافية الثقافة والمثقف، هو منتوج تاريخي، يصنعه الزمن والمكان، أي الفضاء الإنساني! بيد أن "السراع" الرهيب الذي يشهده العالم خلال الفترة الزمنية القصيرة الأخيرة، ومن فرط قوة وتيرة التحولات الناتجة عن هذا الحراك المتسارع بشكل غير مسبوق، من شأن هذا أن يجعل المثقف "التقليدي"، المرتبط ذهنيا بسرعة الحراك التاريخي (الذي لم يتشكل إلا من خلال سراع بطيء!)، مثقفا تقليديا، كلاسيكيا لا يتماشى مع سرعة العصر! ليس لأنه يرفض أن يسابق الزمن وأن يتماشى مع الواقع من خلال عملية "تحيين" أو "تأنية" (actualisation ou mise à jour)، التي لا ينبغي أن تتعثر ولو للحظة!، ولكن لأنه قد لا يستطيع دائما أن يكون على نفس وتيرة سراع سرعة هذا التحول وهذا التطور! هذا ما يمكن أن نصفه بعدم "القابلية للتماهي مع اللحظة!" السبب في ذلك يخضع لطبيعة التركيبة البنيوية لذهنية المثقف نفسه! فالمثقف ليس نموذجا نمطيا! وعلى هذا الأساس، نلاحظ أن المثقفين ليسوا مبرمجين دائما على نفس معدل سرعة التطور والتغير والمواكبة! لكن مع ذلك، فلن يكون بإمكان مثقف الجيل الأول أن يفكر أو أن يتصرف أو أن ينظر إلى الأمور والأشياء ويتعامل معها بنفس الطريقة التي يراها ويتعامل معها مثقف الجيل الثاني!: إذن، نحن أمام معادلة من مجهولين (حتى لا أقول أكثر من مجهول!) الجيل والزمن!: الجيل، يعني مجموعة تراكمات المعارف والمعلومات والعلوم والتحصيل المعرفي والخبراتي التي استمدها واكتسبها هذا الجيل المحدد خلال مدة زمنية وورث خلالها معارف أسلاف ورثوها بدورهم عن أسلافهم!.. غير أن المشكلة تكمن في أن "زمن الجيل الأول"، ليس هو "زمن الجيل الثاني"، كما أن زمن الجيل الثاني ليس هو زمن الجيل الذي يليه، وهكذا! ولما أقول "زمن"، أعني به أساسا، "السراع" أي "المدى": مدى سرعة الزمن في وحدة زمنية محددة (بالساعة والشهر والسنة). صحيح، أننا الآن كمثقفين أمام عصر افتراضي! وبالتالي، فنحن أمام نشوء وتكون كيانات جديدة "افتراضية" لا تخضع لمقاسات وقواطع الكيانات التقليدية (العائلة، القبيلة، الدولة إلخ)..هناك تقاطعات مذهلة، متعددة ومتشعبة، تجعل من السياسي التقليدي "لا يفهم"، ماذا يفهمه الآخر من الجيل الجديد! فما يراه المثقف، وما يراه السياسي، أيضا، لا يراه بالضرورة الشاب، أيّا كان مستواه العلمي (ولا أقول الثقافي، لأني أعتبر أن كل "إنسان مثقف"، وأفرّق بين "المتعلم" و"المثقف")، وبالتالي، فليس الأمر في طبيعة اللون الذي نراه وإنما طبيعة الطريقة والكيفية التي نرى بها هذا اللون أو ذاك! المسألة إذن تتمثل في النسبية! والنسبية تخضع للمعادلة "زمان مكان" (زمكان) كما يقول الفلاسفة والفيزيائيون على حد سواء! فالهوّة السحيقة التي شقها "السراع" الزمني بين الجيلين الأخيرين (إذا حسبنا الجيل بأربعين سنة انطلاقا من التقويم الخلدوني)، فسوف نلاحظ ذلك جليا في كل السلوكات الثقافية لدى الأفراد والجماعات، أيًّا كانت مستوياتهم، بمن فيهم "المثقفين المحترفين" (مفكرون، أنتلجانسيا)...بل وفي طبيعة وآليات تفكيرهم! فجيل الستينيات مثلا، ليس هو جيل الألفية الثانية! فكرا وممارسة وذهنية! لقد انتهى جيل الأربعين سنة الماضية، وأكاد أجزم أنه مات!: لم يمت كجيل بيولوجي، بل كجيل زمني! فآليات التفكير والمنطق عنده، تشكلت وفق سيرورة تاريخية زمنية ذات وتيرة تسارعية أثقل وأبطأ بكثير! ولم يعد الآن بإمكانية اللحاق بجيل له آليات تشكّلت وفق وتيرة أكثر تسارعا! بعبارة أخرى، أنه لا يمكن أن يتطابق محرك بخاري أو مائي، أو عربة تجرها الدواب، بمحرك كهربائي، إلكتروني! ليس معنى هذا أن أحد أفضل من الأخر، فليس هناك أحد أفضل أو أذكى من أحد (أتحدث على مستوى الأجيال وليس على مستوى الأفراد!، أي ليس هناك جيل أذكى من جيل آخر)، وإنما هناك "قيم تتفاوت"! إننا لا نقيم ثقافة ألأجيال بمقياس الجودة أو الرداءة بل مقياس "التوافقية" والتلازمية"! أي ما مدى "تفهّم" هذا الجيل أو ذاك لثقافة هذا الجيل! هذا التفاوت في الفهم والتماهي، أو ما نسميه في علم الاجتماع "بالتمثل"، هو سر شعورنا اليوم كمثقفين أننا أمام مثقف جديد وجيل جديد من الشباب الذي لا ينظر إلى الأشياء بحسب طبيعتها ولكن بحسب بطبيعته هو، أي من خلال قيمه هو! فهو قد ولد فيها ونشأ معها وتربى في أحضانها! ثقافة عالمية، معارف افتراضية، تواصل سريع شبكة واسعة للمعلوماتية، لم يعشها الجيل القديم إلا من خلال محاولة اللحاق بالقطار وهو سائر! من هذا، نخلص إلى أن ثورة الشباب الآن على أنظمة الحكم، إنما هي ثورة ثقافية، قبل أي شيء آخر! ثورة ثقافية بمعنى، ثورة ضد القيم التقليدية التي لا تتفهّم قيم الثقافة الجديدة، مطلبيًا ورؤية وتصورا! الحاكم التقليدي، يملك "ثقافة" تقليدية، ورثها من النظم التقليدية هو الآخر: القبيلة، الملكية، الزعامة..والتي هي بدورها (أي هذه الثقافة التقليدية) لها آلياتها الخاصة: الأبوية، البطريريكية، الوصاية، وما يتمحور حولها من وجوب احترام الشيخ (أمغار)، والكبير (أمقران)، والخضوع لرغباتها والائتمار بأوامرهما والسمع والطاعة وعدم رفع الصوت في وجه الحاكم "الأب"..إلخ..! هذا الجيل الجديد، "يتمثّل" ثقافة مغايرة، رضعها حليبا من القنوات الفضائية التي تعد بالآلاف، ومن خلال الهاتف المحمول والأنترنت ووسائطها المتعددة وأدواتها الاتصالية (المواقع الاجتماعية ونوادي الدردشة والبريد الإلكتروني إلخ..)..ومن ثمّ، ظهرت عبارة صارت اليوم تمثل "سخرية" ضد الحكام المتمثلة في عبارة "فهمتكم!"، ما يؤكد فعلا أن الجيل القديم (كقيمة ثقافة)، لم يعد يفهم..ما يحدث. وهذا كله بفعل تسارع هذا "السراع"! الصغير سلام: المثقف الكلاسيكي يتهاوى ويسقط الراهن العربي يؤشر إلى أن المثقف الكلاسيكي يتهاوى ويسقط مع الأنظمة العربية التي انتهت صلاحياتها تاريخيا، لأنه مرتبط بها بنيويا حتى وإن ارتدى عباءة "المعارض". وبلغة المرحلة، فإن "الشعب يريد إسقاط المثقف الجبان" الذي أصبح أسيرا لجبنه الذي يجتهد في تبريره فكريا فأغلب المثقفين (الموظفين) لاذوا بالصمت ومن تحدث منهم سقط في دوامة التبرير أو في أحسن الأحوال غرق في حالة "احتلام فكري" تراوده أحلام ثورية تناصر ثورات البلدان الأخرى، لكن عندما يتعلّق الأمر بالنظام الذي "يصادر" حق شعبه في السير الطبيعي للتاريخ وهو التغيير فإنه يتحوّل إلى آلية حماية لذاك النظام مهما كانت درجة استبداده فيرفع حينها "فزاعة" الخوف من المجهول والتخويف من الفوضى والتدخل الأجنبي وغيرها من الأسطوانات المشروخة. إن المثقف الكلاسيكي بائس وتعيس عاجز أمام التكنولوجيا الحديثة وتقنية الأنترنت والكومبيوتر ما هو سوى "آلة كاتبة" في نظره و"الفايسبوك" يعتبر عند هذا الصنف من المثقفين وسيلة للتحرش بالجميلات أو لتكديس عدد المعجبات.. فهذا النوع من المثقفين الكلاسيكيين سيكون حطبا للثورات الشعبية مثله مثل الأنظمة العربية الرافضة للتغيير. أما عن المثقف الافتراضي فهو مثقف حقيقي وعضوي يختلف فقط من حيث التعاطي مع وسائط الاتصال الحديثة. لقد ولد دون استئذان أو فترة حمل.. ربما كان خطابه غير منمق ولا بديع لكن خطابه حقيقي ملتصق بقضايا الجيل الجديد، صانع للتغيير وسابق لواقعه.. تنحني أمامه جميع "المومياءات" الكلاسيكية بل ستندثر أمام حرارة خطابه اللاّمجامل الواضح الأهداف الحامل للقيم الإنسانية وعلى رأسها الحرية. سليم بوفنداسة: بعض المثقفين يتقمّصون صورة ملك الملوك على الفايسبوك! وضع المدوّنون العرب المثقف في حرج من خلال الدور الذي لعبوه في "الثورات العربية" إلى درجة أن الكثير من المثقفين سارعوا إلى نعي أنفسهم. ومثلما فاجأت هذه الثورات النُّخب الحاكمة، فاجأت المثقفين أيضا، فخرج الكثير منهم عن رزانتهم وانخرطوا في "الحماسة الثورية". لكن القول بأن المدوّنين سحبوا البساط من المثقف الكلاسيكي أمر مبالغ فيه لعدة اعتبارات، أولها أن المثقف العربي كان يكتفي بإنتاج الإبداع والمعارف ولا يؤثر مباشرة في الحياة العامة. وبالمقابل، فإن المدوّنين الذين تمكّنوا من الوصول إلى شرائح واسعة من الجماهير باستغلال شبكات التواصل الاجتماعي، كانوا أصحاب مطالب، أو صحافيين أو أشخاصا عاديين ولم يكونوا مثقفين أو منتجي أفكار. صحيح أن هذه المطالب وجيهة، لكن المنادين بها لا يملكون أدوات تجسيدها. كما أن هذه الثورات وإن نجحت في إسقاط أنظمة كان سقوطها ضروريا، فإن الوضع الذي ينجر عنها ما زال في حكم المجهول، لأن بناء دولة في الواقع أصعب من نشر مقالات أو فيديوهات على المدونات أو الفايسبوك. ولا بد من التفريق بين المدون والمثقف، حتى وإن كان المثقف المعاصر مطالبا بدخول عصره والاستفادة من مزايا "التدوين" وتجاوز الوسائط التقليدية، والتعاطي من جهة أخرى مع المعارف الجديدة التي تمكّنه من قراءة التحولات، لأن الانفجار التكنولوجي خلخل البنى التقليدية للمجتمعات وغيّر منظومات التواصل ومن الطبيعي هنا أن تتغير التخصصات والمعارف التي تدرس الأنماط الجديدة للحياة التي يفرزها هذا الوضع ويتغير معها اهتمام المثقف. وربما كان ضروريا أن نتساءل –بالمناسبة- عمّا تفعله الحرية الواسعة بمن أسميتموه بالمثقف الافتراضي الذي يلقي بمادته في كل الأوقات على العالمين، مستفيدا من مزايا النشر المباشر ومفتقرا إلى فضائل التريث والانتباه والتمحيص والجدية، والأمر هنا لا يتعلق بضيق من الحرية ولكن بخوف على صورة المبدع والمثقف، الجزائري تحديدا، وقد اهتزت على الفايسبوك مثلا، حين نصطدم بخطابات مثقفين لا تختلف عن خطب ملك ملوك إفريقيا! نعم، لا نحتاج إلى أدوات التحليل النفسي لنكتشف أن ذلك المبدع الذي نحب كتبه وإبداعه يفصح عن اضطرابات عقلية وبارانويا في تعليقاته وفي الصور التي ينشرها، وفي طريقة تقديم نفسه وأفكاره وفي طريقة تعليقه وتفاعله مع الأحداث، وسرد أحواله وتأثيراتها على الكون. هذه الصورة المأساوية للمثقف المتجلي على النّت، قد تكون حجة أخرى لعدم الانتباه إلى المثقف في مجتمع لا يحتاج إلى حجج لفعل ذلك. أمير تاج السر: الثقافة لا تصنعها الدردشة أعتقد أن الأنترنت بمواقعها المتعددة، خلقت مقاهٍ كثيرة يلتقي فيها المثقفون، لكنها لم تخلق ثقافة كبيرة حتى الآن. ليست الدردشة على الفايسبوك ثقافة، ليست الكتابة الانطباعية ثقافة، وتناقل الأخبار ثقافة، بمعنى أن المثقفين حين يلتقون على تلك المواقع، يتنفضون من غبار الثقافة، ويروّحون عن أنفسهم، وبذلك لن يختفي دور المثقف ىالتقليدي على الأقل في الوقت الحاضر، ثانيا ليس كل مثقف قادر على دخول الأنترنت أو مؤهل لدخولها، وحتى الذين يدخلونها من أجيال قديمة، لا يحسون بالمتعة ويتسربون إلى كتبهم. المثقف الحقيقي ينتج خارج الفضاء الافتراضي، يتأزم حارج ذلك الفضاء، وتخرج آراؤه كبيرة وساطعة. وتجربتي في دخول المواقع، علّمتني أنه حتى قرّاء الإبداع، لا يصمدون أمام الطروحات الجّادة التي يكتبها مثقف جاد، ويذهبون إلى طروحات أقل صرامة. أما ما ساعد على بروز ما تسميه بالمثقف الافتراضي - وهذا ما نفيته - هو سهولة الدخول للمواقع لدى الأجيال الجديدة التي وعت على الكومبيوتر، وأيضا سهولة مصادقة الكبار الذين ربما يوجدون افتراضيا، لكن في النهاية نعود إلى ثقافتنا القديمة التي ورثناها ونسعى لتوريثها. سوسن الأبطح : ديمقراطية اللاّوجوه قدر لا مردّ له "المثقف التقليدي" لم يمت فجأة بالضربة القاضية التي وجّهتها له الثورات العربية الناهضة. فقد كتب منذ أكثر من 15 سنة إدوارد سعيد عن موت المثقف العضوي، وللمفكر علي حرب كتاب حول نفس الموضوع. وهو ما تناوله آخرون بإسهاب وتفصيل. أما نحن الذين خبرنا الصفحات الثقافية عن قرب، فقد شهدنا النزع التدريجي لفئة كبيرة من المثقفين، صدّقت عن تقاعس أو تآمر، أن دورها ينحصر في التنظير الضبابي، الذي يبقى في أحسن حالاته موضع اهتمام جمهور من الأصدقاء والمهتمين. ثمّة سببان لهذه الظاهرة: أولها النفعية واختيار البعض للطريق الأسهل الذي يأتي بحفنة من المال ومركز قد يكبر أو يصغر. أما السبب الآخر فهو تحديداً افتقاد شمولية الرؤية، وغياب المشهد بامتدادته الوطنية والقومية عند العديد من المثقفين. هناك إذن من أخطأوا عمداً، وغيرهم انجرف وهماً. ولا ننسى أن فئة المثقفين أصحاب المناصب والجاه، لم تفتح أبواب المؤسسات الثقافية الرسمية والصحف كمتنفس للشباب المبدع. ونمت في العالم العربي ثقافات رسمية على حساب تعبيرات ثقافة حقيقية كانت تتحرك بقوة على الأرض. لم تعترف التلفزيونات والإذاعات الرسمية (وهنا أقصد ذات الطابع الرسمي ولو كانت مملوكة من خواص) بموسيقات وأغنيات وأفلام سجلت من قبل الناس بطرق ذاتية على كاسيتات أو اسطوانات وبواسطة كاميرات التلفونات والديجيتال. وهذا موجود في أقطار عربية كثيرة. من كتب مثلاً عن مهرجان أفلام المحمول الذي نظم في مصر. من اهتم بفهم الراب الذي أخذ منحى عربياً ثائراً على ألسن الشباب العربي في كل الأقطار، ولماذا لم يفسح له المجال ليصل إلى الناس وبقي على قارعة الطرقات؟ من يعرف بوجود تسجيلات موسيقية غنائية ذات طابع خاص جداً التي يتداولها سائقو التاكسي في سورية ولا تصل إلى غيرهم. كل ما فعلته الأنترنت هو أنها جعلت الكثيرين من هؤلاء يلتقون ويتحاورون ويصيبون بعدواهم آخرين ربما أكثر أو أقل إبداعاً. ما يفرض نفسه على الجميع اليوم بالثورات المتلاحقة، لم يولد من فراغ، لكنه أخرج نفسه من التجهيل الذي فرض عليه، بصوت مرتفع. ما سنشهده في الفترات المقبلة ليس فقط انقلاباً على أنظمة سياسية، بل هو تغيير بالقوة لنوع من التفكير الديناصوري المتجمد الذي ألغى الغالبية وأعطى الحق لأقلية قليلة في الثروة والشهرة والحق في الحياة الكريمة. مع العلم أن ثمّة مثقفين وكتّاباً أثبتوا بأنهم ليسوا خارج التاريخ، وهذا يُكتب لهم، فمواقف علاء الأسواني والمخرج خالد يوسف وغيرهم، ممن عُرفوا بإحساسهم بنبض الناس والتفاعل معه حتى قبل الثورة المصرية، كانوا عاملاً إضافياً معنوياً مهماً للجيل الشاب من المنتفضين. الديمقراطية في العالم العربي بدأت، من تحت إلى فوق، وهذا جديد وواعد. الغالبية المسحوقة تحرّكت ولها قادتها الذين سنعرفهم تدريجياً. غير صحيح أن هذه التحركات تسير لوحدها، فهي لها زعاماتها التي ترفض البريق بعد أن أصابها العشي من شدة الأضواء التي سلطت على آخرين، لم تجد في لمعانهم ما يسعدها أو يشبع عطشها ويرضي طموحها. قيادات علّمتها الوسائل الإلكترونية أن قبول الآخر ضرورة لا بد منها. لذلك بات من المرجح أن هذا التغيير الحاصل يشبه تسونامي لا يبقي ولا يذر، والتجربة الليبية أثبتت أن الموت ليس عائقاً وكثرة الضحايا كما سيل دماء آلاف منهم لا يردع الراغبين في التغيير. الديمقراطية بالنسبة للمثقفين الجدد، الذين لا نعرف لهم وجوهاً أو أسماء، ليست خياراً إنها أشبه بالقدر الذي لا مردّ له.