«وقع هذا الحادث الجديد، حادث محاولة نسف مكتب سعادة النائب العام، وذكرت الجرائد أن مرتكبه كان من الإخوان المسلمين، فشعرت أن من الواجب علي أن أعلن أن مرتكب هذا الجرم الفظيع وأمثاله من الجرائم لا يمكن أن يكون من الإخوان ولا من المسلمين، لأن الإسلام يحرمها والأخوة تأباها وترفضها.. ومن المرجح بل من المحقق أنه إذا أراد أن يتحدى الكلمة التي نشرت قبل ذلك ليومين تحت عنوان (بيان للناس) ولكن مصر الآمنة لن تروعها هذه المحاولات الأثيمة وسيتعاون هذا الشعب الحليم بالفطرة مع حكومته الحريصة على أمنه وطمأنينته في ظل جلالة الملك المعظم على القضاء على الظاهرة الخطيرة. وليعلم أولئك الصغار من العابثين أن خطابات التهديد التي يبعثون بها إلى كبار الرجال وغيرهم لن تزيد أحدا منهم إلا شعورا بواجبه وحرصا تاما على أدائه. فلينقطعوا عن هذه السفاسف ولينصرفوا إلى خدمة بلادهم كل في حدود عمله إن كانوا يستطيعون عمل شيء نافع مفيد. وإنني لأعلن أنني منذ اليوم سأعتبر أي حادث من هذه الحوادث يقع من أي فرد سبق له الاتصال بجماعة الإخوان موجها إلى شخصي، ولا يسعني إزاءه إلا أن أقدم نفسي للقصاص وأطلب من جهات الاختصاص تجريدي من جنسيتي المصرية التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء، فليتدبر ذلك من يسمعون ويطيعون وسيكشف التحقيق ولا شك عن الأصيل والدخيل.. ولله عاقبة الأمور". وكان هذا البيان الذي كتبه الشيخ حسن البنا تحت ظروف شديدة القلق واللبس بمثابة مقدمة النهاية التراجيدية لصاحب دعوة الإخوان سياسيا وأخلاقيا وجسديا.. فلقد وجهت رصاصات ثأرية من قبل عملاء أمنيين للحكومة، أردته قتيلا ذات مساء من يوم 12 فبراير 1949.. وبالتالي كان للتنظيم الذي خرج من الظلام كالمارد الجريح أول شهيد رمز بهذا المقام.. كان الدم الذي سال من جسد الشيخ كفيلا بأن يمد تنظيم الإخوان بتلك الطاقة الروحية، وذلك العناد المستميت لأن يستمر الإخوان بعد الاختفاء التراجيدي لمؤسسة الجماعة.. لكن هل باغتيال الشيخ ستتخلص الجماعة من عذاباتها والشقاوات التي راحت تلم بها وتنزل عليها كاللعنات من كل صوب؟! فبعد مقتل الشيخ حسن البنا بعامين، توافد بتاريخ 14 نوفمبر إلى القصر لتقديم الولاء للملك فاروق، وهو المسؤول الأول على اغتيال البنا، عدد من رموز الجماعة وأقارب المرشد العام الراحل، ومنهم الرجل الذي خلف البنا على رأس الجماعة الشيخ حسن إسماعيل الهضيبي، وشقيق البنا عبد الرحمن البنا عضو الإرشاد العام وصهره عبد الحكيم عابدين، سكرتير عام الجماعة، وعدد آخر من المقربين من قيادات الجماعة مثل صالح عشماوي، وعبد القادر عودة وحسين كمال الدين وعبد العزيز كامل ومحمد الغزالي.. في العام 1950 انتشر شيء من التفاؤل في أوساط أفراد جماعة الإخوان لما أحسوا أن الملك فاروق شعر بالانقباض تجاه عودة خصمه العنيد إلى رأس الحكومة النحاس المعروف بمناوءته للقصر والإنجليز.. ولقد أشار عليه مقربون منه أن يخرج الإخوان من ظلامهم وعزلتهم بعد أن يكونوا قد تعلموا الدرس إثر العقاب الشديد الذي لحق بشيخهم وأفراد جماعتهم.. وكانت شخصية حسن البنا الخالية من كل كاريزما وطموح مشجعة للقصر على مثل هذا التوجه.. فالهضيبي كان بعيدا عن الجماعة وهو رجل مسالم، تقي واشتغل لوقت طويل في مجال القضاء، وفي العام 1952 وجهت دعوة من طرف القصر إلى الزعيم الجديد للإخوان.. وكان اللقاء بين الملك والهضيبي وديا ومشجعا، وهذا ما جعل الهضيبي يرد على أسئلة أحد الصحفيين لدى خروجه من المقابلة حول شعوره وانطباعه عن اللقاء بينه وبين الملك فاروق قائلا: "زيارة كريمة لملك كريم".. وفيما كان يبدو أن الزمن الجميل الذي بدأت في الأفق ملامحه تظهر لتصفية الأجواء بين القصر والإخوان، كان رجلا هادئا، خجولا، يشتغل موظفا في وزارة التعليم، له بعض المؤلفات في مجال الشعر والقصة والنقد، وكان عمله النقدي "كتب وشخصيات" قد جعل له مؤطأ قدم في الساحة الثقافية المصرية إلى جانب من الأسماء الكبيرة آنذاك، مثل الناقد محمد مندور ولويس عوض الذي تعرض كتابه إلى النقد من طرف هذا الكهل صاحب الثانية والأربعين سنة يحمل عنوان: "نقد كتاب: مستقبل الثقافة في مصر"، هذا الرجل هو سيد قطب، الذي ولد في نفس السنة التي ولد فيها مؤسس جماعة الإخوان، وهي سنة 1906.. كان منطويا على نفسه، موزعا بين ثقافتين، ثقافته الأصلية ذات الجذور التراثية والدينية والثقافة الحديثة التي جذبته إليها عن طريق روائع الأدب الكلاسيكي والأعمال الرائدة في علم النفس والاجتماع والجماليات.. وهذا التأرجح بين الثقافتين وما يتسم به من قلق ظهر جليا في المواضيع التي تطرق إليها في كتبه مثل "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه" و«التصوير الفني في القرآن" و«مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الهادر" و«العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي صدر عام 1949. وكان الكتاب الذي لفت نظر جماعة الإخوان المسلمين إلى سيد قطب، وقامت باحتضانه إليها وهو المفكر مباشرة بعد عودته من الزيارة العلمية التي قضاها في الولاياتالمتحدةالأمريكية، لقد اتجه سيد قطب إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بمنحة من الحكومة في نوفمبر عام 1948، بحيث حجز حجرة خاصة في الدرجة الأولى بباخرة انطلقت إلى نيويورك من ميناء الإسكندرية.. وبصفة أحد الكتاب الأمريكيين على أنه "كان معلما، ضئيل الجسم في منتصف العمر، يعاني صراعا داخليا يقض مضجعه، إذ كان يتساءل في قرارة نفسه: "أأذهب إلى أمريكا وأسير فيها سير المثقفين العاديين الذين يكتفون بالأكل والنوم، أم لابد من التميز بسمات معينة؟! وهل غير الإسلام والتمسك بآدابه والالتزام بمناهجه في الحياة وسط اللمعان المترف المزود بكل وسائل الشهوة واللذة والحرام؟.."، كان سيد قطب أعزبا، أسمر البشرة وصاحب جبهة عريضة، وشارب قصير، وعينين حادتين.. وذا شعور ينم عن اعتداد شديد بالنفس وكان يحمل في نفسه آثار حب فاشل عبر عنها في إحدى قصصه المنشورة قبل انتقاله إلى النضال في صفوف جماعة الإخوان.. كانت السنوات القليلة التي قضاها في الولاياتالمتحدةالأمريكية ذات تأثير عميق على توجهاته الجديدة، بحيث توصل إلى نتيجة مفادها ألا خير يعود علينا كمسلمين من حضارة الغرب الغارقة في ماديتها وملذاتها المحتقرة لحياة الروح والدين.. ولقد ازداد هذا الإحساس تصلبا بفعل العزلة التي عاشها في الولاياتالمتحدة والمرض الذي ألم به في الغربة، وعدم التواصل مع العديد ممن التقاهم من الأمريكيين وانتشار العنصرية تجاه الأمريكيين السود، وكل هذا الوضع غير المريح لسيد قطب، جعله يختزل الغرب في الانحطاط المادي، وابتعاده عن طريق الخلاص، ولقد وجد مثل هذا الارتياح في كتابات مفكرين غربيين الذين راحوا يبشرون بنهاية وإفلاس الحضارة الغربية مثل "الإنسان ذاك المجهول". ويعلق سيد قطب عن الحياة الليلية في أمريكا قائلا ".. وكانت ساحة الرقص مضاءة بالأنوار الحمراء والأضواء الزرقاء والصفراء، وحمى الرقص على أنغام الجراموفون وسالت الساحة بالأقدام والسيقان العارية، والتفت الأذرع بالحضور والتقت الشفاه والصدور وكان الجو كله غراما.. لقد كانت الشهور الثمانية مثلا التي قضاها في كاليفورنيا تشكل صدمة نفسية لسيد قطب الذي اكتشف نمطا من الحياة الأمريكية، لم يكن مؤهلا نفسيا له.. لقد كانت "أمريكا التي رآها قطب تختلف اختلافا كبيرا عن تلك التي يراها معظم الأمريكيين وعن نظرتهم إلى ثقافتهم، ففي الأدب والأفلام ولاسيما في تلك الوسيلة الإعلامية الجديدة التلفزيون، كان الأمريكيون يرسمون صورة محددة لأنفسهم وهي أنهم شغوفون بمعرفة المزيد عن العلاقات الجنسية، ولكن ليست لديهم خبرة بها، في حين كانت أمريكا التي رآها قطب تشبه كثيرا تلك الصورة كينسي في بحثه، لقد رأى قطب أمريكا أرضا بورا خربة روحانيا مع أن الإيمان بوجود الله كان سائدا في الولاياتالمتحدةالأمريكية في ذلك الوقت، ورأى أنه من السهل أن يضلل المرء بهذا الكم الكبير من الكنائس والكتب الدينية والاحتفالات الدينية، وكتب قطب إلى أحد أصدقائه يقول: "شيء واحد لا قيمة له عند الأمريكيين وهو الروح، وإن بحثا قدّم للدكتوراه في إحدى جامعاتهم عن أفضل الطرق لغسل الأطباق بدا لهم أهم من الإنجيل والدين". وعندما عاد قطب إلى القاهرة على متن طائرة تابعة لشركة الطيران الأمريكية ترانس وورلد إيرلاينز TWA في 20 من شهر أوت (آب) عام 1950، وجد الأجواء العامة مشحونة بالتعصب والتوتر والإشاعات المجنونة حول الفساد وانهيار النظام، وكان ذلك ثمرة انهزام العرب أمام إسرائيل وسطوة الإنجليز على الحياة السياسية في مصر، والصراع العقيم بين القصر والحكومة التي فقدت كل صدقية في نظر المصريين.. كان الظرف السياسي ينذر بأشياء غامضة وشيكة الحدوث.. وذلك بعد أن ضاق قطاع من العسكر بالوضع، بحيث تشكلت مجموعات من الضباط الذين أحسوا بالخديعة والإذلال إثر ما حدث في فلسطين ومسؤولية الحكام في ذلك ضمن حركة سرية أطلق عليها اسم حركة الضباط الأحرار التي رأت حل خلاص انحطاط مصر وطبقتها السياسية الفاسدة في عملية تغيير جذرية تتمثل في القيام بعملية انقلابية. وإذا ما صدقنا صاحب كتاب "البروج المشيدة" لورانس رايت الأكثر مبيعا في أمريكا والحاصل على جائزة بوكير، فإن المنزل الذي كان يقيم فيه سيد قطب المتكون من طابقين، في ضاحية حلوان قد شهد "جزءا من التخطيط للثورة، حيث كان عبد الناصر والمخطوطون العسكريون للانقلاب يتقابلون هناك للتنسيق مع الإخوان. ولقد كانت هناك علاقات وثيقة بين عدد من الضباط ومنهم أنور السادات، وجمال عبد الناصر نفسه، لذا لم يفاجأ الإخوان عندما أطاح الضباط الأحرار بنظام الملكية في مصر، وأبعدوا الملك من على رأس السلطة، وسارعوا بإصدار بيان يعلنون فيه تأييدهم لثورة يوليو 1952. ويشير صالح عيسى في كتابه "الكارثة التي تهددنا" إلى أن الإخوان كانوا على علم تام بالتفاصيل حول خطة الضباط الأحرار، حيث قال: "إن الإخوان المسلمين كانوا على علم بموعد الثورة قبل قيامها، وقد ذكر كمال الدين حسين أنه اتصل في ليلة الثورة هو وعبد الناصر بالإخوان وأطلعهم على التفاصيل، وكان لهم في اليوم التالي متطوعون على طريق السويس لاحتمال تحرش قوات الإنجليز بالثورة"، ويضيف "أن عددا منهم كان يحرس بعض المنشآت وأماكن العبادة، والمصادر الإخوانية تذكر أن موعد الثورة تأجل يوما أو يومين حتى أخطر حسن الهضيبي بموعد قيامها، وكان يقضي الصيف في الإسكندرية، وقد وافق على تأييد الإخوان للثورة".