إلى جانب الكتب السماوية التي أثرت بعدد كبير من الناس، هناك أيضاً كتباً علمية وفلسفية استطاعت تغيير آراء الناس ومعتقداتهم الفلسفية من أجل خير الإنسان والبشر.. فمن الدين والفقه، مرورا بالسياسة والاستراتيجية..وصولا إلى العلم والاقتصاد.. احتفظت هذه الكتب دوما بوقع عظيم ومستمر في الحضارة والإنسان. يعد "كتاب التوحيد" واسمه الكامل هو "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، من أهم كتابات الشيخ وأكثرها تأثيرا في دعوته إلى وأتباعه، فهو يؤسس دعوته في الإيمان على ما قاله السلف، أي أنه "قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"، فهو يعتبر دعوته على طريقتهم وعلى عقيدتهم قولا وعملا، وكان يؤكد أنه لم يخرج عن طريقتهم البتة، وليس له في ذلك مذهب خاص ولا طريقة خاصة، بل هو كما جاء في الكتاب "على طريق السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم بإحسان"، وإنما أظهر ذلك في نجد، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، على غرار علماء السلف كابن تيمية وابن قيم الجوزية. وُلِد محمد بن عبد الوهاب سنة 1703 في مدينة "العيينة" قرب الرياض، تعلم القرآن وحفظه عن ظهر قلب، قبل بلوغه عشر سنين، وقرأ الفقه على أبيه، الذي كان قاضيا، فكان يحثه على طلب العلم ويرشده إلى طريق معرفته، ومكتبة جده العلامة القاضي سليمان بن علي بأيديهم. توجه الشيخ إلى الرحلة في طلب العلم، رحل أولا إلى مكة والمدينة ثم البصرة غير مرة، طلبا للعلم.. ولم يتمكن من الرحلة إلى الشام وعاد إلى نجد يفقِّه أهلها في الدين وينهاهم عن مظاهر الخرافة وتقديس القبور.انتقل الشيخ إلى بلدة "حريملاء"، التي انتقل إليها والده، بعد أن عين عليها أمير جديد يلقب بخرفاش بن معمر، والذي لم يرق له بقاء الشيخ عبد الوهاب في القضاء، فعزله عنه، فغادرها الشيخ عبد الوهاب إلى حريملاء وتولى قضاءها وأقام فيها. أقام الشيخ محمد بعد عودته من رحلته العلمية في حريملاء مع أبيه يدرس عليه ويدعو إلى التوحيد والعودة إلى عقيدة السلف الصالح... اضطر للهروب، خوفا من اضطهاد أحد الأمراء إلى "الدرعية"، فوجد فيها الأمير محمد بن سعود حاكما عليها فقال له بن سعود: "أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعزة والمنعة"، فقال الشيخ: "وأنا أبشرك بالعزة والتمكين، وهذه كلمة لا إله إلا الله، من تمسك بها وعمل بها ونصرها، ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى نجدا وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم بعض، فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك". وهكذا تم اللقاء التاريخي بين الوهابية ومؤسس الدولة السعودية الأولى، ثم الثانية ومنذ سنة 1932، وحد الملك عبد العزيز المناطق في إطار مملكة موحدة اسمها "المملكة العربية السعودية"، مع الاحتفاظ بالسلفية الوهابية مرجعا أول لها... ومنه أصبح اسم السلفية الوهابية المذهب الرسمي للمملكة منذ تأسيسها.يتكون الكتاب من 66 بابا، يتناول كل باب منها قضية عقائدية ما، الباب الأول هو "فضل التوحيد وما يكفر عن الذنوب"، والباب الأخير هو ما جاء في قوله تعالى: "وما قدَروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون"... تقوم دعوته في الكتاب على ثلاثة أركان: أولا: إنكار الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص. ثانيا: إنكار البدع والخرافات، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد ونحو ذلك، كالموالد والطرق التي أحدثتها طوائف المتصوفة. ثالثا: أنه يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكرات ويزجرهم عنها ويقيم حدودها ويلزم الناس الحق ويزجرهم عن الباطل.. الكتاب سمح أيضا بظهور تيارات سياسية تتبنى أفكار الشيخ ونهجه للوصول إلى السلطة. وعند انهيار المعسكر الشرقي، تحول التيار الذي أسسه الشيخ إلى "العدو رقم واحد" لكل الأنظمة التي احتضنته.. لتبدأ قصة ما يعرف اليوم بالحرب على "الإرهاب".. وهي حرب موجهة بالأساس لاجتثاث التيارات السلفية..صحيح أن السلفية سلفيات بالجمع، وهي تكفر بعضها بعضا، كما يحصل بين سلفية القاعدة وسلفية السعودية، بين سلفية جماعة الدعوة والتبليغ، المتأثرة بأفكار الباكستاني المودودي وسلفية المتصوفة.. إلا أن دور كتابات الشيخ في ظهور التيارات الإسلامية لا يمكن إنكاره، تماما كما لا يمكن إخفاء حقيقة أن هذه التيارات أضحت مكونا سياسيا وثقافيا في الوطن العربي.. وعقب أحداث 11 سبتمبر، لم يُخفِ الغربيون، عامة، والأمريكيون، خاصة، التصريح بالمسؤولية الأدبية للسلفية الوهابية على ما وقع، أولا لكون ثلثي الانتحاريين هم سعوديو الجنسية، وثانيا لكون زعيم تنظيم القاعدة كان إلى عهد قريب مقربا من الدوائر العليا في الدولة، هذا عن المسؤولية المباشرة، أما بشكل غير مباشر فالتعليم والإعلام السعوديان المعتمدان بالمطلق على الفكر الوهابي يوفران دوما أرضية للتطرف، وخصوصا في أوساط الشباب المعدم اقتصاديا والضعيف من الناحية التعليمية.وتعرضت صورة المذهب الوهابي لاهتزازات قوية عندما تبنت بعض التيارات التابعة له العنف ضد المواطنين العزل، بدعوى جاهليتهم، وخاصة بعد عودة ما يسمى بالأفغان العرب إلى بلدانهم، ثم لكون الفقهاء الوهابيين كانوا قد أفتوا بالسماح للولايات المتحدةالأمريكية باستعمال الأراضي السعودية في الحرب على العراق.. ناهيك عن موقفهم من "مقاومة حزب الله"، الذي يلقى تعاطفا كبيرا في أوساط عموم البسطاء وقضايا أخرى، كفتوى صادرة عن الشيخين الراحلين بن باز والعثيمين والتي تحرم على النساء سياقة السيارات، وتقر بنظام الكفيل والبدون وتضيق على باقي الطوائف والمذاهب، وانشغال علماء "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"، وهي الوصية على المذهب الوهابي في البلد، وانشغالهم بمجالس المناصحة الخاصة بسجناء تنظيم القاعدة وإغفال قضايا الفساد التي تورط فيها بعض أفراد العائلة الحاكمة، كقضية اليمامة الشهيرة.