ينطلق الصوت بإيقاعات، تكتب الإيقاعات السفر، ويظل الصوت يعيدنا إلى مواقع الأثر.. الإيقاعات تضاريس والصوت الدليل الذي يظل يشدنا إلى لحظات عبرت لكنها تركت التوقيع.. التوقيع يتوهج ويتأجج فنمتلىء بالحنين ونعيد بتمثل الماضي تمثل الذات وإعادة اكتشافها وتعريتها في محاولة لإعادة إلباسها ما يشحنها بالدفء ويمنحها ما تعبر عنه العبارة الشعبية ببلاغة تغني عن أي تفصيل، عبارة "الستر". الإيقاعات ترتبط بالتضاريس، أو التضاريس تهب الإيقاعات فيتشكل الإيقاع بروح المكان، ويمتد الإيقاع فيحضر فينا المكان.. والمكان يحضر بكل من فيه وما فيه.. وذلك ما ينطبق على الرأي بكل تنوعاته وتشعباته. بدأ الراي انزياحا وانفلاتا، خرج بالمكبوت وصاغ تمرده على النسق الذوقي الذي هو من تشعبات النسق الكلي المهيمن.. كانت الإيقاعات متعددة وممتزجة في ريتم تمكن من الامتداد.. كان انفلاتا عن الضبط والربط في سياق له ملابساته التي سدت الباب أمام المختلف وقولبت فكبتت وكان ذلك سهرا على أن يتحرك الجمع بإيقاع الواحد. كانت النزعة الاحتجاجية المتمردة على الغلق السياسي والتنميط الهوياتي متجلية في أغاني بعض رموز الأغنية القبائلية، وكانت النزعة الاحتجاجية ضد الواقع الاجتماعي قد ظهرت مع بعض الأصوات كأحمد صابر صاحب أغنية "بوه بوه الخدمة ولات وجوه".. وكانت النزعة المتمردة على الكبت العاطفي والجنسي محمولة في أغاني الراي... أغاني بمعجم منفلت عن الضبط اللغوي، واللغة تتصل بإطار ذهني يشكل التصورات التي تتحدد بها المدركات، فتكون المفردات مشحونة بإيحاءات مرتبطة بتراتبيات اجتماعية وبانتظامات ثقافية وتثاقفية وبالتالي بسياسة، والسياسة في حد ذاتها كما يقول بول تشيلتون الباحث في تحليل الخطاب السياسي: "هي كيفية استخدام اللغة". ويمكن من دراسة مفردات الأغاني المتحولة عبر الفترات إدراك المتغيرات التي حدثت في مجتمع عرف النقلة من المخاطبة بصيغ الأخوة إلى صيغ "شريكي". وكان الهامش ينحت مفرداته المعبرة عن الحال وعن وعي مباشر به، فكانت تسمية العاصميين لرياض الفتح في الثمانينيات بهبل وفي ذلك إحالة لطغيان المترفين. كان الهامش يبدع بلاغته وكان الراي يقول الرغبة، كان يقول الجسد المختوم نسقيا بالحجب وفي قول الجسد مانفستو التمرد على القولبة واشهار العصيان لهيمنة القبيلة والجهاز. بدأ الراي خلخلة وإشهارا للرغبة، قول للمكبوت بلغة فجة، مباشرة، قاسية، عنيفة.. لغة تكتب المحو وتمحيه لتنبعث كتابة مضادة، تصنع ثراءها بفقرها، وتنسج بلاغتها بقسوتها... كانت الصوت يصرخ باللوعة والجرح، كان يحتفل ويستدعي الجسد للانطلاق والدخول في (الزهو). ظل الراي محجوبا، ظل في الهامش، في الأحياء الخلفية إلى منتصف الثمانينيات لما تكرس واحتضنته المؤسسة الرسمية في سياق تحولات المنظومة وإعادة ترتيب البيت باسم المراجعة... في سيرة الراي سير وفي السير مسارات وفي المسارات علامات ومعالم. برزت أسماء وتكرست، وبدأت السيرة تتعولم، وتتحول إلى علامة من علامات الجزائر. ومن الأسماء التي صارت أيقونة، حسني أيقونة الحب الجزائرية. في سياق مشحون بالغليان وبالانزلاق في ما يمكن وصفه كما عنوّن احميدة عياشي روايته ب "متاهات الفتنة"، المتاهات التي أدخلتنا في الجحيم بكل ما تتصرف به مفردة الجحيم حسب مدركاتنا النسبية ، في سياق وصول التطرف إلى ذروته وتبلوره بمشاهد يظل استرجاعها مرعبا.. امتد صوت ليس كباقي الأصوات التي ألفناها، صوت امتد، تسلل وسكن القلوب، صوت امتد نازفا بجرح القلب.. صوت شقرون حسني. حسني ابن قومبيطا، لعب الكرة ثم انغمس في الغناء وكان الراي قد تكرس بأسمائه التي واصلت مسار سلالة الريميتي ومقلش وبوثلجة وبلخياطي، واصلت مع راينا راي وزرقي ونعام، بالزهوانية وخالد وفضيلة وصحراوي، بفتحي الذي كان له بصمته وأسلوبه الأكثر ارتباطا بالأغنية الوهرانية، وفتحي سيرة أخرى لم يتم الالتفات إليها رغم أهميتها. إنطلق حسني في أواخر الثمانينيات بإعادة غناء من سبقوه كخالد والمرحوم فتحي، وغنى ما يعبر عنه في قاموس الرايويين ب "الروبلة" أي الزهو، ثم انطلق في مسار صاغ به هويته وحقق به تحولا في الراي، تحولا نحو لغة متحررة من "الهارد"، لغة مشحونة بالهشاشة، هشاشة التحرر من حجب الإحساس وإنكار الضعف، ومواجهة مشهرة لحبه: "ما تسالونيس الا بكيت عليها".. غنى الحب وكان من أكثر المغنيين تسجيلا للأشرطة حتى نعت ب "بلاي"، كأنه كان يستشرف مشوار العمر القصير.. كانت أغنياته بمثابة بلوك نوت أو يوميات يدون فيه كل حالاته، يشتكي هجر الحبيبة، يعاتبها ويعلن الانفصال عنها ثم يعود مذعنا لسلطان الحب، يشتكي ممن تسببوا في الفراق، يتحدث عن السحر وعن الحروز، يعلن الغرق في السكر بسبب الهم ويدعو الخالق لكي يشمله برحمته ويرفع عنه البلاء.. يدون كل تناقضاته، يتحدث عن الفيزا ويعلن البقاء في البلد: "غير هنا ونديرو القلب"..، غنى عن الوالدين وعن الصداقة والعداوة، عن الأمل وعن الإحباط، عن الغربة، عن الشوق للغائب العزيز، عن لوعة أب حرم من ابنه... غنى كل هموم الشباب، كانت كل تفاصيل حياته في أغانيه، كان يتحدث بصدق، جعل صوته المفرد، صوت جميع الشباب، كل شاب استعار صوت حسني ليقول أوجاعه وأحلامه وفانتازماته. كانت أغاني حسني بكلمات بسيطة وبتوزيعات موسيقية لأحان مختلفة من الريرتوار الوهراني والشرقي والغربي والمغربي... وكانت القوة في ما يشحن به الكلمات من أحاسيس، كان لا يؤدي، بل يعيش ما يغنيه أو بعبارة أخرى كان يخرج ما يسكنه صوتا، كان الصوت أمواجا، موجة آهات وموجة هتاف للحياة.. في زمن الدم والموت، كان حسني يغني الحياة والحب، فكان أثره النفسي الكبير مواصلة لارهاصات سبقته وسارت معه كتجربة رائعة في الثمانينيات لفرقة بولي فن، وكالتجربة المتميزة للمرحوم كمال مسعودي، الذي مثل تحولا في ريبرتوار الأغنية الشعبية.. والعودة إلى ريبرتوار حسني يجعلنا نلتفت إلى أنه ظل يحمل إحساسا بالموت.. حضرت الموت في أغانيه فكانت أغنية: "راني خايف نموت" وأغنية: "قالوا حسني مات".. وكانت الموت معادل ألم الفراق ولوعة العشق فوصف المعشوقة: "هي الموت الي تديني". وفي ريبرتوار حسني ما يثير الشجون ويؤجج الحرائق، ولكن فيه ما ينعش الروح بإحساس رغم الألم رائع، فيه ما يؤنس وما يكسر النمط الذي نمطنا كمجتمع خشن ولا يمتلك القدرة على التعبير. أستحضر حسني وأظل أستمع لأغانيه في ليالي بيضاء لا تنتهي.. أستحضره كمعطوب فقد عمره المعنى وأدركه الضياع لما التفت فوجد الرصيد كله هباء.. أستمع كأنني لا زلت مراهقا، كأن الطفل المدفون في يريد الخروج، كأن الشاب الذي ضاع عني يريد أن يكون.. إنه حسني الذي يعيدني صوته إلى أيام، أيام أتذكرها بأحاسيس مختلطة.. كان الرعب وكان صوت حسني يأتي بما لا تسعفني العبارات لقوله. أستحضر حسني في ليالي تمتد، وأستعيد صور أبناء حومتي في الليالي، أستعيدهم غائبين عن الوعي وغارقين مع صوت حسني، ومنهم من يرتعش كأن الصاعقة أدركته.. إنه العمق يهتز وإنه العطب يبث قوله. ظل حسني يغني الغياب وينشد حضوره: "الشيرة الي نبغيها ديما يبان لي خيالها"، "البابور دير مزية ورد لي العزيز"، "في جاه ربي ردو لي العزيز".. الغياب المفجع الذي يترك الاشتعال متأججا. يأتي الصوت يحرك الجمرات الخامدة وتتملك الكيان الرغبة في الصراخ والبكاء، في التحرر من ألم (الكيات) ف (مازال قلبي من الكية ما برا) غنى حسني وبث الحسرة (راني ندمان على ليام الا ضاع صغري فيها)، نطق بالمرثية وجهر بالنشيد. آه ما الذي يحل من أثر الصوت؟ يحل التحلل والحلول معا، تحلل بتدفق الصور التي يحملها الصوت، حلول في حالة تنفلت عن الضبط. إنه أمر يتجاوز التعاطي طبقا لمعايير الموسيقى والغناء، إن الحال مع حسني متصل بالحال.. بالحالة التي تحل فترتجف الجوانيات وتضطرب البرانيات.. أنصت وأستعيد كيف كان الخطاب العاشق يتشكل ويبني لغة المراهقين والشباب.. كيف كانوا يجدون السلوى في كلماته. آه يا حسني لقد سكنت في الأعماق، وبقيت كلماتك البسيطة حاضرة، في رحم التراجيديا غنيت: "ما زال كاين ليسبوار".. أنصت وأستعيد أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات.. وأتذكر ذلك الانفلات المشحون الذي تحول إلى صواعق، أستعيد الحلم المجهض والربيع المغدور.. كان الذين استقطبهم في الثمانينيات بخطبه علي بلحاج هم من أسكرتهم مراوغات بلومي وصعقتهم استخبارات الشاب خالد ثم جاءت التسعينيات فجرفتهم آهات حسني، وظل حسني حاضرا رغم الرحيل، بل تضاعف الحضور وتكثف، وصارت للراي رومانسيته مع حسني ونصرو. هي سيرة مركبة لفنان مات في السادسة والعشرين، لكنه شحن مروره بكثافة.. فالله يرحم حسني في رقدته ويرحمنا معه.