لم أكن أود كتابة أي عمل خارج نطاق القصة والرواية، ولكن اختلاط المشهد، وارتباك الرؤية دفعني لتوثيق الوقائع. الجزائر، من دون قصد، أغلقت ثغرة أخيرة كاد يتسلل منها مبارك الصغير. أعتبر أدب الرحلة فائض محبة. ولد الروائي سعد القرش في محافظة الغربية (8 / 1 / 1966)، وتخرج في قسم الصحافة بكلية الإعلام/ جامعة القاهرة (1989)، ونشر أولى قصصه (لو) بمجلة (إبداع) في أبريل نيسان 1988، وأصدر ثلاثية روائية مهمة في تاريخ السرد المصري من حيث المعمار الروائي والتخيل واللغة الشاعرية المقتصدة هي (أول النهار)، (ليل أوزير) و(وشم وحيد)، وكان قد صدر لسعد، عدد من الأعمال القصصية والروائية منها (حديث الجنود) و(باب السفينة) ومجموعتان قصصيتان هما (مرافئ للرحيل) و(شجرة الخلد)، وكتاب في أدب الرحلات عنوانه (سبع سماوات). كما حصل قبل عامين، على جائزة الطيب صالح في الرواية العربية، بالإضافة لكتب ثلاثة يلخص فيها رؤيته كأديب للأحداث التي مرت بها مصر أثناء وبعد الثورة وهي "الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير" ، "وأيام الفيسبوك.. مسائل واقعية في عالم إفتراضي " و«سنة أولى إخوان". حول كتاباته السياسية وعوالمه الروائية، وما آلت إليه الثورة المصرية بعد فوات عامين أو أكثر على قيامها.. وعن عدد من القضايا الأدبية والثقافية كان هذا الحوار مع سعد القرش: تتطرق في كتابك "الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير" إلى ثمانية عشر يوما إستغرقتها الثورة المصرية حتى سقوط نظام مبارك، وقد تكلم البعض عن الحرج الذي سببته للبعض ممن حاولوا الإلتصاق بالثورة، هل قدمت فعلا شهادة محايدة للتاريخ؟ في "الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير" إحتفاء بالشعب العظيم، الذي تمكن من خلع طاغية، بوسائل سلمية، بالغناء والسهر واقتسام الرغيف والسيجارة وكوب الشاي في الميدان، وسجّلت في المقدمة إعتذارا للشعب، واعترفت بأنني لم أكن حسن الظن، على نحو كاف، بقدرات المارد الذي ثار. الكتاب يسجل وقائع 18 يوما من التحدي غير المسبوق، الصراع بين شعب لا يملك إلا الأمل والإرادة وبين طاغية يستند إلى جهاز بوليسي جبار يضم نحو مليون و300 ألف شرطي، أما مقدمة الكتاب، فهي عن كهنة من سياسيين ومثقفين زينوا له سوء عمله فرآه حسنا، وظلوا يتغنون به حتى أيامه الأخيرة، ثم انقلبوا عليه ونافقوا الثورة. ومنذ البداية، آثرت أن أكون شاهدا فقط، فلا أصف شخصا بالكذب أو العمالة أو التضليل أو النفاق، واكتفيت بإغماض عيني ورواية مواقفه المعلنة، التي كتبها بنفسه في عصر مبارك ثم بعد 25 يناير، حاولت أن أقرب ملامح هؤلاء إلى أعينهم، فبدوا مسوخا مشوهة تثير الرثاء. لا يسعى الكتاب إلى البحث عن فضيحة أو نميمة، من أراد ذلك فيمكن أن يلتمسه في كتاب آخر، لأن كتابي يعنى بتسجيل الجمال ومواطن النبل، ومنذ الإهداء.. (إلى شهداء ثورة 25 يناير 2011). وإلى عبد الوهاب المسيري، جمال حمدان، محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس، محمد عفيفي مطر، أحمد مستجير، أحمد نبيل الهلالي، محيي الدين اللباد، محمد السيد سعيد، فاروق عبد القادر، محمد عودة، وغيرهم ممن انتظروا طويلا هذه الولادة الجديدة لمصر. إلى الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي بدأ مقاتلا وانتهى قاتلا، (لولا عنادك، وانتهاجك سياسة الملل، لفقدت الثورة كثيرا من روعتها).. منذ الإهداء إعتبرت الكتابة وثيقة محبة، وهذا موجود في فصل تمهيدي عنوانه (الطريق إلى الثورة) سجلت فيه المواقف المشرفة للذين بشروا بالثورة، والذين دعوا إليها، وكانوا شجعانا ودفعوا ثمن شجاعتهم. منذ البداية واجهت تحديا كبيرا.. كيف أكتب عن حدث بهذه الروعة؟ وقلت إن العالم تابع وقائع الثورة، شاهد الجموع برؤية بانورامية، سياحية من أعلى، إستشراقية أحيانا، ولكن التفاصيل إنسانية لا تلتقطها الكاميرات، وهذا هو دوري، وحين بدأت الكتابة قررت أن أي جملة لا يكون فيها الجمال هو البطل فإنها تسيء للثورة، وإن من يريد أن يتصدى للكتابة فعليه أن يكتب "في الثورة"، لا "عن الثورة"، وكتبت بروح تلك الأيام الثمانية عشر، حين كنا متحدين، لا فرق بيننا في الدين ولا الأيديولوجيا، ولم أنس تسجيل لحظات التعالي من جانب سلفيين وإخوان عقب خلع مبارك مباشرة: فجأة رأيت ميدان التحرير يسرق، تغزوه العباءات السود لسيدات، واللحى الطويلة والجلابيب القصيرة. كانت الهتافات طوال 18 يوما تجعل من الوطن عقيدة، ومن المستحيل أن تعرف دين صاحب الشعار، ولكن الليلة بدت كلحظة خطف الغنائم، واقتسام ميدان التحرير، وتوزيع فضائه وهوائه، ومكبر الصوت بيد مهووس ينادي: «تكبير». فيرد المئات سعداء بالنصر: «الله أكبر». هل ترى أن الثورة في مصر قد تعثرت، ولم تستطع أن تقوم بتغيير جذري مع السابق؟ الآن أرى الهرم قد انقلب أو يكاد، يقف على قمته المدببة، وتميل قاعدته مع الريح، وفي سقوطه سوف يسحق كثيرين، ثم يتسلقه الذين انتظروا هذه اللحظة، ويرفعون فوق قمته الجديدة رايتهم. إنقلب الهرم فأمسيت أردد: «ذهبت الفكرة، وجاءت السكرة»، بدلا من القول المأثور: «ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة». وكيف حضرت أيام الثورة في كتابك «أيام الفيس بوك .. مسائل واقعية في عالم افتراضي»؟ في "أيام الفيسبوك.." سجلت محاورات شهور التيه اللفظي ولكن بالإستعانة بكتابة خفيفة هي محاورات الفيسبوك، فبعد ثورة 25 يناير، أصبحت البطولات مجانية، والجالس على الخاذوق لديه شجاعة أن يسب السلطان، والسلطان في السجن. هنا يأتي موقع التواصل الإجتماعي (الفيسبوك) مرآة لا تتجمل بأثر رجعي، وتقول للمستعدين للعمل مع الجالس فوق الكرسي، أيا كان: «عيب». في «الكتابة» نختفي وراء أقنعة أكثر صدقا من الحياة، أقنعة الفن، ولكن الفيسبوك سجل لا يكذب، هو ملامحك وبصمة روحك، كتابك الذي ينطق عليك بالحق، ويؤرخ مواقفك بصرامة يستحيل معها التزوير، أنت في الفيسبوك حاصل جمع آرائك وتعليقاتك وأصدقائك وأعدائك وتفاعلاتك، أنت صفحتك. هناك سرديات روائية تتداخل مع السياسة في كتبك الثلاثة "الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير" 2012، "وأيام الفيسبوك.. مسائل واقعية في عالم إفتراضي " و«سنة أولى إخوان"، هل خلفيتك ككاتب هي التي نحت بك بهذا التوجه في الكتابة؟ هذه الكتب الثلاثة، هي شهادة على عصر مبارك وما بعده إلى الآن، وإن شمل كتاب "سنة أولى إخوان" توثيقا تاريخيا للجماعة منذ نشأتها، مرورا بتطوراتها وانتهاج العمل الإرهابي الدامي منذ الأربعينيات، وبالوثائق التي كتبها الإخوان أنفسهم.لم أكن أود كتابة أي عمل خارج نطاق القصة والرواية، ولكن اختلاط المشهد، وارتباك الرؤية، وقدرة بعض الفصائل على الكذب، وادعاء بطولات وأشياء وهمية عن أمور مازلنا نعيشها، دفعني لتوثيق الوقائع، ليكون كتابي شاهدا ودليلا لدى جيل لاحق، لأنني أكتب عن أحياء، ولديهم القدرة على الرد. في كل الأحوال، أنتصر لفكرة "الكتابة"، لأنني لا أحتمل كتابة مسطحة أو باردة مهما يكن الحدث الذي تتناوله، ما يعنيني في "الكتابة" هو الجمال، هو "كيف" تقول، وليس "ماذا" تقول. لنتحدث عن سبب اختيارك لأدب الرحلات في كتابك "سبع سماوات "؟ في السفر، لا أشغل نفسي كثيرا بتأمل غرائب الأماكن، ولا تبهرني البنايات الفخمة، إلا بقدر ما تحمل من الملامح النفسية لمن شيدوها، كأنني أراقبهم، أردد غناءهم، وأحنو عليهم فأحتمل بعض شقائهم، وأمسح عرقا يتصبب منهم، ويتشكل حجارة لها رائحة البشر. يروي محمد البخاري أنه دعا الشاعر التركي ناظم حكمت، حين زار مصر عام 1962، إلى دخول مسجد السلطان قلاوون بالقاهرة، لكنه «أمسك بيدي ليخرجني متعجلا، وهو يقول لي: معذرة يا أخي إن تركيا مليئة بمئات من هذه المساجد، والأبنية هي الأبنية في كل العالم، إن ما أريده هو أن أستمع إلى نبضات الناس، إلى كلماتهم، أن أتبين وميض بسماتهم، وهنا لمح طفلين يتهامسان إلى جنب زوجته الشقراء الروسية، فتورد وجهه وانحنى يحدثهما متوسلا أن أترجم له كل ما يقولان».وأعتبر أدب الرحلة فائض محبة، لم أضبط نفسي مضطرا لقول ما لا أريد، أستبق الزمن ناظرا إلى الأمام مئة عام، وأضع نفسي مكان قارئ لم يولد بعد، سيكون قاسيا في حكمه، وأتفادى أن يصفني بالكذب حين يقرأ لي شيئا عن بلد لم أحبه بقدر كاف يحملني إلى الكتابة عنه. زرت بلادا جميلة، أو تبدو كذلك، ولم تلتقط نفسي الإشارة، تلك الذبذبة الخاصة بروح المكان، وتأجلت الكتابة، إلى حين أو إلى الأبد، كما تكررت زيارتي لبلاد لم تتجاوز العين إلى قلب يجب أن يفيض بمحبتها أولا.زرت بلادا أكثر من عشر مرات، ولم أكتب عنها سطرا، تقع محبة بلاد أخرى في قلبي من النظرة الأولى لأهلها في المطار، وغالبا يكون هؤلاء يشبهوننا، حدث هذا في العراق والمغرب والجزائر التي وصفتها بأنها تمتد كلوحة تلخص التاريخ، ضد فكرة الإستقامة والبعد الأحادي، شيء من التعقيد يمنحها غموضا، يجعلها أقرب إلى فكرة العناد والإستعصاء. شاركت بملتقيات عدة في الجزائر، ما الذي تعنيه لك تلك الزيارات والبلد؟ الجزائر، من دون قصد، أغلقت ثغرة أخيرة كاد يتسلل منها مبارك الصغير، إلى الكرسي، ثم اتضح أن الثغرة ظلت موجودة ومتوارية، حتى بعد (جمعة الغضب 28 يناير)، ولم تنته تماما إلا بعد فشل «موقعة الجمل» يوم الأربعاء الدامي 2 / 2 / 2011. ذهب جمال إلى السودان، على رأس بعثة منتخب كرة القدم، ولكن المباراة الفاصلة يوم 18 / 11 / 2009، انتهت بفوز الجزائر، وتأهلها لنهائيات كأس العام 2010 بجنوب إفريقيا. كان الترتيب أن يمر سيناريو التوريث من بوابة الجزائر عبر السودان، وأن يحمل الوريث فوق رقاب العباد، في مطار القاهرة، وتخرس الألسنة، وترفع الأقلام، وتجف الصحف، ولكن الجزائر أحبطت خطة اللصوص، فاخترعوا خطة بديلة، هي اتهام الجمهور الجزائري بالبلطجة. كان واضحا أن لاعبي الجزائر أبرياء من تهمة الإساءة إلينا، لم يكن مطلوبا منهم أن يخونوا بلادهم، ويفتحوا شباك مرماهم، من أجل جمال مبارك، وانصبت اللعنات على الجزائر، حتى إن الحماسة المصطنعة لعلاء مبارك، في برنامج تلفزيوني، حملت لاعب كرة تافها على التباكي، وقال إبن مبارك الكبير بثقة: وداعا للعروبة، وبغير إحسان، تبعه يوسف زيدان، في (المصري اليوم)، مزايدا وساخرا من «مسميات ما أنزل الله بها من سلطان: الأخوة العرب الأشقاء»، وهذا مقال دال وكاف ليجعلني أفرغ يدي من «اجتهادات» يوسف، وأتخلص من كتبه الغزيرة، بعد أن استعرض بخفة، غير لائقة بباحث، البؤس الذي قال إنه يغوص في نفوس «صحراويين لم تعرف بلادهم يوما نسمات التحضر»، في «ذلك البلد المسمى الجزائر.. ورئيسهم الحالي المسمى بوتفليقة»، ثم وجد جذورا لهذا العنف الرياضي «أتذكر.. كان معنا فى كلية الآداب طلاب جزائريون بالدراسات العليا، وكانوا والحق يقال مثالا للغباء والعنف الداخلي، والتعصب المطلق (أي التعصب لأي سبب) ومع أن المنح الدراسية المقدمة لهم، ويا للعجب، كانت مجانية، أي أن مصر (المحروسة) تقوم بسدادها عنهم، إلا أنهم كانوا لا يكفون عن التذمر، لأنهم كانوا حانقين على بلدهم! لأنها أرسلتهم إلى مصر وليس إلى فرنسا، كآخرين من زملائهم» (25 / 11 / 2009).