الجمعة 24 يناير 2014، الثالثة والنصف مساء، الجو جميل والخطوط الجوية الإماراتية في الموعد كعادتها، بعد خمس دقائق ستقلع الطائرة باتجاه مطار دبي، سبع ساعات جوا لحضور ملتقى الشارقة الحادي عشر للمسرح العربي، الذي اختار موضوع المسرح والتسامح. الرحلة مريحة تماما، كل شيء في مكانه: المضيفون والمضيفات والخدمات المتنوعة وما يشبه الخيال، أما أنا فلم أكن في مكاني المناسب، ربما كنت في غير مكاني المعهود، أنا الذي ألفت تأخر رحلات خطوطنا الجوية الجزائرية أو إلغاءها دون توضيح، ودون اعتذار، ودون أي اهتمام بالمسافرين الذين يتكدسون في المطار كاليتامى، مهملين وحيارى ومنبوذين وتعساء كفئران الكنيسة، الخطوط الجوية الجزائرية رمز من رموز التسيب، ووجه من وجوه البلد الذي يدعي التفوق على الناس ولا يستطيع الاعتناء بوجهه الممسوخ كوجه القرد والذبابة. لا مجال للمقارنة، الإماراتيون متفوقون في التنظيم وفي المواعيد وفي الرؤية، وفي الأناقة كذلك، وعلينا أن نتوقف عن الكذب الرقراق وإنتاج الهذيان المركز، ومن ثم النظر إلى أنفسنا مليا، وبشجاعة. علينا، إن كنا نريد تجاوز هذه اللعنة العامة، أن ننظر إلى كل المرايا التي تعكس حقيقتنا علّنا نبرأ من الفوضى وتضخم الذات والانتفاخ المفرط الذي أصبح عنصرا أساسيا من شخصيتنا، الحقائق مخيفة وصادمة، لكنها ضرورية لتسوية النفس ومعرفة أوضاعنا البائسة التي يحولها الخطاب الفاشل إلى انتصارات وهمية على التخلف الذي يقيم فينا وفي سلوكياتنا وأفعالنا، نحن المنتمون إلى العالم التاسع أو العاشر أو الأخير، وليس للعالم الثالث كما نزعم خطأ. نحن بعيدون عن العالم الثالث بعشرات السنين، العالم الثالث شيء آخر، سلوك آخر وأمل في الحاضر والمستقبل، وليس في الظلام والقمامات التي تحيط بنا من كل الجهات، ومن كل الأنواع، وفي كل الأصقاع، بما في ذلك القمامات السياسية الموغلة في التهريج والتطبيل المخل بالحياء. عليّ أن أكون واقعيا جدا: إنها لبهجة حقيقية أن تسافر في الخطوط الإماراتية الممتعة كما السرد الإلهي، وكما ورد الله. يجب الاعتراف بهذا الفهم الراقي والثناء عليه بكل العلامات المضيئة التي تتوضأ باستمرار للذهاب إلى المعنى، متواضعة وفعالة، لا داعي للمقارنة إذا، لأن ذلك من قلة الإدراك، ومن قلة الأدب، إن لم يكن من الكبائر، إن السفر في القطن ليس كالانتظار في مطارات الجزائر التي لا توفر أدنى الخدمات، ثم نتحدث عن التقدم بعنجهية المرضى ومدمني الكسل والاستعلاء، ودون خجل، نحن بحاجة إلى نقد شامل للهرب من الوسخ، من التبجح المضر بصحتنا، وبالأجيال الخاسرة بالوراثة، تلك القادمة بالصدفة باتجاه الصدفة. سبع ساعات في الجو، موسيقى وأفلام ومتعة وحضور مستمر للطاقم الساحر الذي تقول له كن فيكون، المهم. ثم لاحت إمارة دبي أخيرا. المطار مدينة واسعة من الكرز والضوء، ما يشبه القارة الصغيرة التي تنسج البهجة العارمة، قد تضيع في هذا المطار الذي يتوفر على قطارات داخلية ومصاعد ومحلات كثيرة وطوابق وحافلات ليست كحافلات العالم العاشر الذي يدّعي التقدم والمعرفة، في حين أنه لا يميز بين الكوع والبوع، بين الصلاة والنهب المقدس، يجب رؤية مطار دبي، وذاك أفضل تعليق عليه، يجب التجول هناك ومعرفة التأمل والتفكير في مشاريع الإماراتيين، التي لا تضاهى. لقد حدث أن شاهدته قبل ثلاث سنين أثناء عطلة علمية، لكنه تقدم كالبرق، ذهب بعيدا جدا ولم يعد يفكر في التوقف، انطلق إلى المستقبل وما عاد ينظر إلى الوراء إلا ليتبين آثار وجهه السابق وبعض الأمارات، طوبى لك أيها الحيز العظيم الذي عقد العزم أن يفاخر الأمم، بحزم وأبهة، وبحكمته الخالدة التي استقاها من النظر إلى الآفاق، وليس إلى البطن والأمعاء، كما تفعل بعض الأقوام التي لا خير فيها، تلك التي تتوفر على ألسنة طويلة في الفم والجيب والأحذية والمحافظ والاجتماعات، وفي الصلوات الفاسدة، كما يحدث لنا نحن الجزائريين الذين انتفخنا فوق الحد، إمتلأنا ريحا وفراغا وتكبرا وأوهاما. استقبلتني في المطار مضيفة روسية بتكليف من ديوان الثقافة بحكومة الشارقة، كانت في الموعد بلغتها الإنجليزية، وبرشاقتها ولباسها الفاخر الذي يليق بمستوى المطار وسمعة مؤتمر المسرح العربي، الذي دعيت للمشاركة فيه بمداخلة حول التسامح في مسرح كاتب ياسين. أحضرت الروسية التأشيرة، وقامت بتسوية دخولي إلى الإمارات، دون أن أقوم بشيء، كنت كالملك حقا، أي تنظيم هذا؟ كأن المسألة شلال ذاهب إلى حيث يجب أن يذهب، دون صخب ودون عناء، لقد ضبط المنظمون أمورهم كما يليق بسمعتهم وسمعة بلادهم، هل رأيتم سعي النحل وطريقته في إبداع العسل بتواضع؟ لا مجال للهرولة وعياط القردة. كان السيد أحميد ينتظرنا في سيارة رباعية الدفع أمام المطار، أنا والمخرج الدكتور الأخضر منصوري من جامعة وهران. ما إسم تلك السيارة الفاخرة التي أقلتنا؟ الله ورسوله أعلم. لونها أبيض، ذاك ما استطعت أن أميزه، أبيض فاتح، أما الباقي فسأفكر فيه لاحقا، أنا والشيطان. لعل الشيطان يعرف ذلك بعد جهد جهيد، لم نحمل أمتعتنا، كان هناك مكلفون بالمسألة، أما وظيفتنا فتكمن في إلقاء محاضرة، ليس إلا، سنرتاح يوما وتنطلق فعاليات المؤتمر في السادس والعشرين من شهر يناير. أعرف أن جو الملتقى سيكون بهيجا، هناك تقاليد أعرفها. الثانية صباحا، كنت أتأمل دبي من نافذة السيارة، عظمة حقيقية وتحفة تعكس عبقرية الإماراتيين وحكامهم، يجب التأكيد على هذا أو كتابته بالألوان، وبخط بارز ليراه المتبجحون، المسؤولية ليست تشريفا وتلاعبا بأموال الرعية، ليست كذبا مستمرا وإنجازات من الرماد، أو جعجعة بطحين من الفحم والقاذورات والناموس والقمل. يعلم الخالق، كم أصبحت أنفر من الخطاب السياسي الذي لا علاقة له بالواقع والمشاريع الصفراء الشاحبة التي تشبه رجلا مات قبل نصف شهر، كيف وصل الإماراتيون إلى هذا المستوى من التنظيم والتفكير؟ لا أنتظر تعليقات السياسيين الفاشلين والناس الذين لا شغل لهم سوى التقليل من أهمية الناس المجتهدين، الممتلئون كالطبل هم الذين يجدون تبريرات تشبههم، وتشبه عجزهم وعنجهيتهم ورؤوسهم الفارغة وبطونهم المدججة بالحرام والطبول والمكانس والنفاق، ما أتعس هذه الفصيلة المتورمة. أعرف كيف وصلت دبي إلى هذا المقام العالي الذي يشرفها، بوركت أيتها الإمارة الحكيمة، وليخسأ الثرثارون واللصوص. كانت دبي قبل أعوام قليلة صحراء من صحاري الله، مثلها مثل الجزيرة العربية وسوق عكاظ والفيافي العطشى إلى الحياة والماء، ثم جاء العقل والإيمان بالقدرات البشرية، بالإنسان والمواطن، كما لا يحدث في البلدان التي لا يؤمن ساستها سوى بأنفسهم وبعائلاتهم الكسولة التي تولد ثرية وعبقرية ووسخة، أما المواطنون فمجرد تبن، مجرد جرذان. إن مسؤولين من هذا الحمق لا يشعرون بمسؤوليتهم تجاه التاريخ، لأنهم يمثلون المركز والحقيقة، إنهم المجرى والمرسى والنبوة والربوبية والكون برمته. عليَّ أن أتأمل هذه الهالات الأسطورية التي ابتكرها الخليجيون، كل شيء يحيل على الفطنة والنباهة، كل ما أنجز يجب أن يكون هناك، في مكانه، وليس في مكان آخر، العمران المقدس يرقص في تناغم مذهل، لم ينجز الإماراتيون عمارات وخربشات وأكواخا ومحتشدات، بل لوحات زيتية لفنانين من نوع فان غوغ أو سلفادور دالي أو بيكاسو. كذلك تبدو المدينة المضيئة كأرواح المتصوفة، فاتنة ومثيرة، يجب النظر إلى دبي باحترام وإجلال حتى لا تغضب آلهة الجمال، ويجب التسليم عليها برفق لئلا تنكسر من شدة السلام، دبي لا تحب الصراخ والأصوات المرتفعة كنعيق محركات الشاحنات القديمة، السلام عليك يا برج دبي، وصباح الخير يا برج العرب، صباح الخير إلى غاية ذهابي إلى القبر حزينا وساخطا وقانطا، وكارثيا. إبتسم أنت في الشارقة: بهذه العبارة المدهشة تستقبلك الإمارة التي لا تبعد عن المطار إلا بكيلومترات معدودة، عبارة كتبت بالورد والعشب على أرضية خضراء كانت رملا قبل عشرين سنة خلت، مجرد كثبان منسية هناك حيث القيظ العارم والجفاف والإبل والعقارب، ثم جيء بالربيع في غير وقته وثبت هناك، أصبحت الشارقة ربيعا من صنع الإنسان الموهوب الذي سلاما عليه، هل هناك تعليق؟ أجل، هناك ناس يحولون الصحراء إلى ربيع، وهناك ناس آخرون يحولون الربيع إلى صحراء لأن أرواحهم من الجفاف والقحط والرذيلة والوسخ الأعظم. هناك أنظمة تستثمر في العقل وقوس قزح، وهناك أنظمة أخرى تستثمر في البطن والشر الكاسح الذي لن يقدر عليه إبليس وذريته، ذلك هو الاستنتاج الوحيد الذي لا يمكن دحضه، ولا حتى مناقشته، الشارقة قصيدة لن يكتبها الحمقى والسطحيون الذين يتكلمون ولا يعملون، أو لا يتكلمون ويعلمون، أو لا يتوقفون عن الكلام ويشيدون حماقات وخرابا وأوكارا للجريمة، أو ما يسمى في منطقهم سكنات إجتماعية. الشارقة، كما دبيوالإمارات الأخرى، مصادر للفن ومراجع أكيدة وجب الاحتكام إليها لأنها مضمونة، قلتم مسألة أموال؟ الجزائر ودول أخرى لها أموال في البنوك الأجنبية، وفي صندوق النقد الدولي، ولها نفط غزير في جيوب اللصوص وبطانة السوء التي تبني مستقبلها في البلدان الأجنبية بأموال اليتامى والمغدورين. على العينين أن تبتهجا بالنظر من نافذة السيارة التي يقودها أحميد، قاصدا فندق هوليداي الدولي حيث سنقيم، كان بلباسه الخليجي الأبيض، ما زال الأجداد يرافقونه في اللباس والقول، لعله أحد حفدة النابغة، ربما مر الشعر الجاهلي من هنا، ربما مر عنترة بن شداد أو أحد المغضوب عليهم، أحد المغيرين أو أحد الذين أغير عليهم، الشنفري أو عروة بن الورد أو سليك. من يدري؟ كانت تلك عبارة عن قراءة عابرة للشكل والعلامة، مجرد خيال أملته اللحظة، مع أنه يبدو غريبا ومبالغا، لكنه ممكن، كان أحميد يقود ببطء عبر شوارع دبي إلى غاية الشارقة التي أقمت فيها قبل ثلاثة أعوام، مكثت بينها وبين دبي والورقاء قرابة شهر. كان ذلك في التوقيت نفسه تقريبا، يناير وفبراير. كدت أنسى مظهر الشارقة ليلا، لم تبق في الذاكرة سوى صور قليلة، لكني استرجعت ما تيسر مما ضاع في فوضى مدننا وهرولتها، وفي الخطاب السياسي المريض بكل الأوبئة القاتلة. الساعة الثالثة صباحا، غرفة الفندق مجهزة، ماء وشاي ومشروبات غازية وعصير وفواكه، سأشرب قهوة في الشرفة المطلة على العمارات الفاخرة التي تقابل فندق هوليداي الدولي، قريبا جدا من البحر والحياة، سأدون بعض الملاحظات وألتقط صورا في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ثم أفكر في الراحة، مع أن تأمل الشارقة ليلا أمر مريح، إن لم يكن واجبا. النظر إلى جمال الشارقة في هذا التوقيت أفضل من النوم، ثم إن لنا كل الموت لننام، ولنا مدننا التي نسير فيها ضجرين أو نائمين وغير مبالين بالأوساخ والصراصير والناموس وقنوات صرف المياه التي تصرفها في الشوارع البائسة، وبمظهر الهوائيات المقعرة والملابس الداخلية التي ترفرف في كل الشرفات، أهلا وسهلا بي في الشارقة، مرحبا بي في هذه الجنة الصغيرة. السعادة القادمة من أبو ظبي: راسلت الشاعر الجزائري عياش يحياوي قبل ذهابي إلى الإمارات، لم ألتق به منذ قرابة عشرين سنة، لكنه ظل حاضرا في وجداني، هناك ناس في الكون لا يمكن نسيانهم لأنهم يعيشون في النسغ ويضيئون الأعماق كما ملائكة الرحمن، في الحادية عشرة وصل إلى الشارقة قادما من أبو ظبي، هاتفني من الفندق حيث أقيم، لا أدري كيف عرفه، ولا كيف عثر عليه، عرفت لاحقا أنه مر بإتحاد الكتاب وسأل عن مكان إقامة المشاركين في ملتقى المسرح العربي. ليست لي العلامات الكافية لنقل لحظة اللقاء المثير، وليست لي استعدادات للحديث عن تلك الدقائق التي لا تختلف عن نعمة ربانية نادرة الحصول، الأستاذ عياش يحياوي من تلك الطينة التي يتعذر العثور عليها في طين الخليقة، ذلك الذي جبل منه المفسدون والتافهون والخاسئون والسطحيون والصب الرديئة التي تدعي الوطنية والعبقرية، عليَّ أن أشكر الإماراتيين على تلك اللحظات التي لا تشبه لحظات الموت التي تلازمني منذ سنين، أشعر فعلا أني مت منذ أعوام، لكني بقيت أهيم في المدن اللعينة كأشباح الأجداد الذين رحلوا موجوعين ومقهورين. أصبحت اللحظات التي أعود فيها إلى الحياة نادرة، كما المعجزات، ومن هذه اللحظات لقائي بالصديق عياش الذي جمعتني به في العاصمة الجزائرية حكايات، ثم بان وبنت، هاجر إلى الخليج مرغما، قال لي إنه كان يبيع في وهران أثاث بيته ليقتات، كل يوم كرسي أو طاولة أو برواز أو تحفة أو خزانة، كان يفعل ذلك بمرارة لأنه لم يكن يمتلك مالا ليستمر في الحياة، مثله مثل العشرات الذين شردهم البلد إلى بلدان الناس، إحدى المهن التي يتقنها هذا الوطن الذي لا حظ له ولا مستقبل، ذاك تصوري الخاص الذي أتحمل مسؤوليته، ما رأيكم في بلد يعمل جاهدا للتخلص من طاقاته وعباقرته لفائدة المعوقين معرفيا؟ لعصب الفساد العام؟ قضيت يوما عظيما مع الشاعر يحياوي، وتجولنا في سيارته التي يسميها الناقة، ومعه اكتشفت المريجة لأول مرة: مركز الشارقة القديم الذي تم الحفاظ عليه كتراث مادي بانتظار توسيعه في السنين الخمس القادمة، كما شرح لي المهندس الفذ محمد حسين طلبي، سيتخلص الإماراتيون من عمارات كثيرة لبناء ما يشبه الآثار، على المنوال الذي عرفت به الهندسة القديمة، حجارة وحيطان عمرها مئات السنين كما تبدو للرائي، لكنها حديثة ومصممة بمهارة، هناك حيث تزهو ساحة الخط ودار الندوة وبعض المؤسسات الثقافية وسوق العرصة. تحدثنا عن كل شيء، العبقرية الإماراتية، الأصدقاء، اشتغاله على الأنتروبولوجيا، عمله الصحفي، وضع البلد، المستقبل، الشعراء، مشاريعه في أبو ظبي، علاقته بالجزائر، هجرة الأدمغة، أبحاثه، دواوينه الشعرية، تحدثنا حتى عن عدم وجود الشرطة والناموس والقاذورات والأطفال في شوارع الإمارات، وضحكنا بالعربية الفصحى. أجل، فعلنا ذلك عندما قمنا بمقارنة في غير محلها، من ذلك النوع الذي لا يصلح أخلاقيا وأكاديميا. لا أدري كيف انقضى اليوم، سيعود عياش مساء إلى أبو ظبي، وسنلتقي هناك في نهاية الأسبوع، سننتقد ونختلق كل أنواع النميمة، سنتحدث عن مستقبل بلدنا وعن الطبالين وعن الإمارات العربية المتحدة الساحرة بعمرانها ووردها، عن رواتب الأساتذة، عن مشاريعها الإقتصادية والثقافية والترجمية، عن الطبع والكتاب، عن إنجازاتها الفاخرة وعن أحلامها، سنسخر من البلدان التي تحتفل بالهزائم والتجارب الفاشلة التي تعتبرها انتصارات، سنقهقه كثيرا هذا الأسبوع، لنا كل الوقت، وكل الحق لنقهقه دون شفقة، وقتنا وقت للقهقهة والانتظار وفقدان الأمل، وقت الموت، لا غير. أما التفاؤل، فقد يأتي بعد رحيل جيلنا، سيأتي خائفا ومتلعثما كاليتيم، ونحيلا كحرف الألف، وكالخيط، أما إن لم يأت، فله الحق كله، ليس للتفاؤل أن يأتي إلى بلد ينبذه، أو يصدره إلى الخارج مع الأدمغة والموهوبين، لا خير في بلد يرى الذكاء مشكلة وجب القضاء عليها بكل ما أوتي من خبث وسوء تقدير. محمد حسين طلبي: من حسن حظي أني التقيت في كوكب الأرض بنموذج من هذا النوع الذي انقرض منذ أجيال، لقد ظل ملازما إياي منذ وصولي إلى دبي، بالمكالمات الهاتفية وبحضوره الشخصي، وبحضور إبنه المطرب فادي وإبنته الصغيرة، هذا الشخص من سلالة الملائكة، أؤكد ذلك، عاش خارج الجزائر أزيد من أربعين سنة، لكنه ظل قريبا منها، بكتاباته وباستضافته للجزائريين، وبروحه التي ظلت مرتبطة بالعلامات القديمة، كم كان سعيدا عندما أخبرته بأني قادم للمشاركة في الملتقى الحادي عشر للمسرح العربي بدعوة من حكومة الشارقة مشكورة، رأيت الفرح يثب في عينيه على بعد آلاف الكيلومترات. كذلك هو، طفل تجاوز الستين بقليل. يا لعزة الأرض التي أنجبت هذا الملاك في وقت صعب وكنود ولص وقليل الأدب ومليء بالفراغ والكذب والبهتان والصفات القبيحة التي يتعذر حصرها. حدثني حسين طلبي، عن قضايا ثقافية كثيرة وعن مسائل لها علاقة بالهندسة المعمارية، المجال الذي يتقنه جيدا، دون التفريط في الفن والأدب والتحقيقات الصحفية وتقديم الكتب والكتاب، لقد تم تكريمه في الإمارات كمفكر قدم خدمات جليلة في فن العمران، وتلك مسألة سنعود إليها لاحقا في حوار خاص بالمدينة والدلالة، قدم لي الأستاذ حسين مجموعة كبيرة من الفنانين والشعراء والأدباء، كما حضرت معه أمسية شعرية زاهية بتقاليدها الاستثنائية، وبحضور شخصيات يرأسها مستشار الحاكم، لم يحدث لي أن شاهدت ذلك التنظيم البتة، وأتصور أني لن أشاهده في جهات كثيرة بالنظر إلى عدة اعتبارات، علاقات السيد حسين طيبة وراقية مع المحيط، وتلك إحدى ميزاته الجوهرية، كيف لم تستفد الجزائر من خدماته وخدمات الكثيرين؟ سنعود إلى هذا الموضوع. البلد لا يحتاج إلى العباقرة لأنهم حشو في سلسلة الفساد المحلف، إنهم مزعجون كثيرا، خاصة عندما لا يتورطون في النهب وصناعة الخسارة والتخلف. غدا ستنطلق فعاليات ملتقى الشارقة الحادي عشر للمسرح العربي، التقيت في اليوم الأول بأغلب المشاركين القادمين من بلدان عربية مختلفة، مسرحيين ومخرجين وممثلين ومتخصصين في دراسة الخطاب، المؤتمر لا يتعلق بالتقنيات، بل بالمضامين، هناك مبادرة لترسيخ فكرة التسامح، نقاش يتعلق بالرؤى إذا. ربما فكر المنظمون في تناول أحد الموضوعات الشائكة التي تتطلب مقاربات خاصة، فلسفية واجتماعية ودينية وسياسية ونفسية، إلى غير ذلك من مكونات الموقف، لكن المبادرة في حد ذاتها استباق، نجاح قبلي من حيث الفكرة. قبل ذلك، يجب أن أنعم بورد الشارقة وهندستها المعمارية التي لن يقدر عليها الشيطان وحلفاؤه، يجب أن أنسى، ولو مؤقتا، تلك الأحياء المخيفة التي بنيناها بأموال النفط الضائع. الإمارات العربية المتحدة، يناير 2014 ... يتبع