لقد عمل حسين طلبي خلال تواجده بالخليج (الكويت، الإمارات) على إعادة تشكيل وجه البلد وتقديمه في حلة أخرى، خاصة في تلك السنين التي عرفت انهيارا كبيرا وغدت مضربا للأمثال. عندما كنا في لجنة المواطنة، بصدد دراسة الملفات التي وصلتنا من مرشحين قدموا للبلد ما استطاعوا تقديمه، دون أن ينتظروا مقابلا، كنت أفكر في ردود الأفعال التي ستأتي من هذا وذاك، ومن الأصدقاء كذلك، التعليقات المرّة.. والجميلة في آن واحد. لكني، بالمقابل، كنت أفكر في شخص آخر يستحق هذه الجائزة، لأنه مختلف جدا، جزائري ونصف، إن لم يكن أكثر مواطنة من عشرات الآلاف الذين يحتكرون الوطنية والمواطنة، بمبالغ ضخمة أحيانا، على شاكلة بعض المسؤولين الذين عاثوا فسادا في الأرض، وقد يعيثون فسادا في الآخرة إن كانت لهم مؤهلات غيبية لبلوغ ذلك، باسم الوطن والوطنية والمواطنة الزائفة. أجدني مقتنعا بواحد من نوع محمد حسين طلبي، جزائري من الطراز الرفيع، بلا صخب وبلا ادعاء. قامة كبيرة من الأخلاق والتواضع والحضور في الغياب، رغم المسافة التي تفصله عن هذه التربة التي أخلص لها بطريقته الملائكية المثيرة. عندما التقيت به في الإمارات العربية لم أكن أعرفه جيدا كشخص. قرأت ما يكتبه في الجرائد والمجلات والكتب، ثم عرفته جيدا في الشارقة وفي دبي، حيث يشتغل منذ سنين كمهندس له اهتمامات أسطورية بالشأن الثقافي، إن لم يكن جزءا من الثقافة ذاتها، من الثقافة ومن الحياء لأنه جبل من مادة نورانية كتلك التي خرج منها الزهاد والمتصوفة في تلك الأزمنة التي لن تعود أبدا. أعتبر محمد حسين طلبي سفيرا لثقافتنا هناك، ولشخصيتنا الجزائرية التي أصبحت تشبه القهوة بالحليب، لا هي عربية ولا هي أمازيغية ولا هي إفريقية ولا هي فرنسية ولا هي عبرية. السيد محمد حسين طلبي ليس قهوة بالحليب، وليس حطام دراجة هوائية قديمة، وليس من هؤلاء الذين يسعلون بكل اللهجات والمعارف بلا سبب واضح. إنه شخص نحيل ربّى حاسة السمع وأدّبها. يسمع جيدا ولا يقاطع أحدا، ولو كان بغلا، وما أكثر البغال في هذا الكون الذي امتلأ ثرثرة وصريرا لا يهدأ. قضيت معه في دبي قرابة عشرين يوما، أي ما يعادل عشرين حقلا من القمح والورد والتصوف والورع وحب البلد، ليس بطريقة السياسيين الذين يحبون البلد مقابل أموال ضخمة وعقارات ومصالح وتصريحات من الكذب الرقراق، بل على طريقة الجزائريين الذين لا ناقة لهم ولا جمل، تلك السلالة التي تكاد تنقرض من الوجود لأسباب يعرفها القاصي والداني. هذا المخلوق من أواخر الوطنيين النبلاء. وأشدد على الوطنيين النبلاء لأني نادرا ما صادفت في الوطن واحدا بخصاله وصفائه ونقاء سريرته وكرمه وحسن ضيافته. ولا أعتقد أن هناك جزائريا واحدا زار الإمارات دون أن يهتم به الأستاذ حسين. لا أحد يردّ له طلبا، ولو كان تعجيزيا. هناك كلمة تعجبني كثيرا عندما ترد في مكانها الصحيح، عندما تخرج من فم إنسان، وليس من فم خنزير: النخوة. أية كلمة رائعة هذه، وإذا كان هناك شخص تنطبق عليه تماما فهو حسين طلبي. بلا منازع. لقد عاش أكثر من أربعين سنة بعيدا عن الوطن، لكنه لم يبتعد عنه أبدا، ظل فيه كما الروح والدم. الجزائر بالنسبة إليه هي هذه الجغرافية التي تلازمه حيث حل وارتحل. ولا أدري تحديدا من أين استمد طاقة التواصل هذه. إنه مطّلع على كل شيء: السياسة والشعر والقصة والرواية والمسرح والتاريخ، والعناوين والأسماء كلها ترنّ في ذاكرته وعلى رفوف مكتبته المهاجرة. إضافة إلى ذلك فإنه يقتنيها ويوزعها على المثقفين والقراء في الإمارات للتعريف بالكتابات الجزائرية، دون أن ينتظر شيئا، لله في سبيل الله، كما يقولون. مازال يؤمن بهذه الفكرة التي سلاما عليها مذ أصبح المال حجا وكعبة: لله في سبيل الله. لا يمكن أن تمر على الشارقة دون أن يرتب لك لقاء أو ندوة، أو أن يجري معك حوارا. اندهشت شخصيا عندما وجدت بعض عناويني متداولة هناك. لما قدمت محاضرة في السيميائيات السردية بمقر الإتحاد وجدت الجمهور يعرفني ويعرف ما كتبته. وهناك من يملك نصوصي. كيف حدث ذلك والعلاقات الثقافية في الدرجة صفر؟ محمد حسين طلبي هو الذي اقتناها من العاصمة ووزعها هناك، كما فعل مع كتاب آخرين، المكرسين منهم والمغمورين. كما لا يفعله الآخرون الذين يبخلونك لأنك حي ترزق أو لا ترزق. وهناك بيته، أغلب الجزائريين مرّوا من هناك، وأنا أيضا، أو رافقوه إلى المؤسسات الثقافية المحترمة وتعرفوا إلى المسؤولين والكتاب والأساتذة والمثقفين، أو تناولوا معه الغذاء أو العشاء على حسابه، كما يفعل دائما مع مواطنيه. ورغم انشغالاته الكثيرة كمهندس له التزاماته، إلا أنه يخصص كثيرا من الوقت للقادمين إلى دبي أو الشارقة أو أبو ظبي... بلا مقابل، بل بخسارات فظيعة أحيانا. وماذا نقدم نحن؟. كل مقالات حسين عن الجزائر، العالم بالنسبة إليه اسمه الجمهورية الجزائرية التي لم يعش فيها سوى سنين قليلة، وقليلة جدا، مقارنة بالأربعين سنة التي عاشها مهاجرا رفقة زوجته وابنه الوحيد، بعيدا عن رائحة التراب والجغرافية. كنت في دبي لما حصل الطاهر وطار على جائزة عويس الثقافية، وكان المرحوم في اتصال مع محمد حسين طلبي. كان مريضا، وما كان بمقدوره أن يكتب كلمة، أو يتنقل لكي يتسلمها. ناب عنه حسين بكلمة مختصرة وأنيقة وسألني عن رأيي. من أين جاء بكل ذلك التواضع؟ لا بد أنه هبة إلهية لا تحدث دائما، خاصة مع جيلنا نحن، جيل العمالقة والجهابيذ والفطاحل وكل الألقاب مجتمعة. لقد عمل حسين طلبي خلال تواجده بالخليج (الكويت، الإمارات) على إعادة تشكيل وجه البلد وتقديمه في حلة أخرى، خاصة في تلك السنين التي عرفت انهيارا كبيرا وغدت مضربا للأمثال. خلال تلك الأعوام ظل ينشط، يكتب هنا وهناك ويستضيف هذا وذاك دون كلل، وكان يشبه نبيا من الضوء. أما معجزاته، فتتمثل في وجوده تحديدا. إن وجوده بركة ونعمة من الله علينا بها في هذا الوقت الأغبر الكنود. وكان في نيته، هو البعيد عن وطنه ومدينته، أن ينجز مشاريع مجانية في وقت ما. وقدّم طلبات للجهات الوصية التي بيدها الحل والربط ومحرار الوطنية ومقاييس الرجل الصالح. كان التصميم جاهزا، وكانت أمواله الخاصة تنتظر الردّ على طلبه لتقديم هباته، بيد أن ذلك لم يحدث أبدا. لم تكف نيته الخالصة. كان يجب أن يقدم رشاوى، أو ما يشبه ذلك من أجل تجسيد عمل خيري يربح فيه أمرين: خسارة جهده وعرقه، ليس إلا. كان يحدثني عن مشروعه بمرارة. كأن الأعمال التطوعية من الكبائر في هذا البلد، كأن ذلك إثم. لم يكن الأمر متعلقا باستثمار ما، بل بخدمة مجانية تعود بالمنفعة العامة على الراعي والرعية، على المواطن الصالح والفاسد. كان ذلك غريبا في بلدان أخرى، وليس عندنا. تقفيلة: عندما ودعني بمطار دبي أخبرني بأنه عازم على العودة إلى أرض الوطن بعد ترحال طويل. أنهكته الغربة. ذاك ما أصبح يشعر به في السنين الأخيرة وقد بلغ الستين، قلت له فكر جيدا قبل الإقدام على أية خطوة. أن تؤمن بالجزائر وأنت بعيد عنها أفضل لك أن تكفر بها وأنت فيها. أعاد الاتصال بي هاتفيا عدة مرات ليطمئن على البلد. وكنت أتساءل عما إذا كان مصمما على العودة نهائيا. إلى أين يا رجل؟ أعتقد أن هناك فئة تستطيع تقديم خدمات من بعيد. أما إذا دخلت إلى الدائرة فستتسخ وتفسد كما فسدنا جميعا. لقد قدم الأستاذ حسين للثقافة الجزائرية في الخليج ما لم تقدمه عشرات المؤسسات التي في طور التلعثم واللغو. ويخيل إليّ أنه يمثل هذا النموذج الجزائري الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ وكدنا ننسى خصاله وملامحه عندما أصبحنا مجرد جيوب وزفت وإسمنت مسلح، دون أن ننتبه لحقيقتنا. المواطنة شيء آخر، قيم أخرى، وهذه الصفات مجتمعة هي التي تسم الأستاذ حسين، هذا الرجل الذي في منتهى الهشاشة والنبل والشاعرية، وهذا الإنسان الذي يتعذر العثور على نماذج تجاوره لأنه حارب نفسه ليصبح كذلك. قيمة من الصفاء والود والإخلاص والارتباط بالبلد وثوابته. سلام يا آخر النبلاء..