يمكن لوزير الثقافة الشهير السابق جاك لانغ والابن الروحي للرئيس الراحل فرنسوا ميتران أن يتباهى في الدنيا والآخرة بإنجازه الحقيقي الأول منذ التحاقه برئاسة معهد العالم العربي العام الماضي. معرض قطار الشرق أو الأورينت إكسبرس (1883 1977) مهد له "الجزائر نيوز الثقافي" قبل حوالي شهر بإطلالة معرفية إثر الجولة التاريخية والرمزية التي مكنت رجال الإعلام الفرنسيين والأجانب وبعض العرب من ركوب القطار الخرافي انطلاقا من محطة ليون بباريس حتى محطة الشرق بشهادة روح أغاتا كريستي التي كتبت روايتها الشهيرة "جريمة في الأوريون أكسبرس" عام 1934. مراسل "الجزائر نيوز" يعود في هذه الوقفة لملحمة القطار الثقافي والأدبي بعد أن دخل معهد العالم العربي فاتحا أبوابه للجماهير التي قرأت عنه وشاهدته في الأفلام فقط ومدشنا مرحلة فارقة في تاريخ المؤسسة الثقافية المطلة على ضفاف السين. عرفت ساحة معهد العالم العربي، صبيحة يوم الخميس الرابع من الشهر الجاري، على غير العادة، مشهدية غير عادية بكل المعايير بمناسبة التدشين الرسمي للتظاهرة على مرأى مارة "لم يفهموا شيئا" من تواجد قاطرة الرأس البخارية وثلاث عربات تابعة للقطار الذي ركبه أيضا غراهام غرين ولورنس العرب ومارلين دتريش ماتا هاري والفريد هيتشكوك وإرنست همنغوي وتولستوي ودوس باسوس وجوزيف كيسيل ومسافرون غير معروفين من الطبقة الأرستقراطية وسياسيون وديبلوماسيون. كانت الساعة التي ثبتت على سطح مكاتب استقبال الجمهور في شكل قطار تشير إلى الحادية عشرة حينما بدأ المدعوون التوافد على ساحة معهد العالم والوقوف في طابور طويل كما حدث في صالون الكتاب لدخول عربات قطار الحلم والجمال والإبداع والبذخ متناسين ولو لفترة تحت وطأة الفضول خلفيته الاستعمارية التي تذكر بأفول الأمبراطورية العثمانية أو رجل أوروبا المريض وغاضين الطرف عن طموح وجنوح غرب راح يوظف تقدمه الصناعي في القرن التاسع عشر لغزو مدن الشرق الساحر بدءا باسطمبول التي استقبلت القطار الذي أبدع فكرته رجل الأعمال البلجيكي جورج ناجيلما كرس عام 1883. رواية كريستي وطربوش أحمر مراسل "الجزائر نيوز" سعد بالملف الصحفي الذي كتب باللغة العربية جزئيا لأول مرة بقلم الزميلة الرقيقة والأديبة المبدعة سلوى النعيمي المعنية بالحدث أكثر من عربي آخر بحكم شاميتها وكان من بين الذين هرولوا عن بكرة أبيهم للظفر بالسبق الشخصي والمهني الذي لا يتحقق إلا مرة في العمر. تواطأ الله صبيحة الافتتاح مع الزوار المتهافتين ولم ينزل مطره الربيعي لإفساد المتعة المستهدفة قبل الوصول إلى الدرج المؤدي إلى القطار الخرافي. من بين الأشخاص الذين كانوا في استقبال المدعوين رئيس معهد العالم العربي، جاك لانغ، الرجل غير العادي الذي شب وشاب على الفنون والثقافة والمعرفة وازداد شبابا رغم بلوغه سن الرابعة والسبعين لحظة خضوعه للتصوير رفقة تلاميذ كانوا في قمة السعادة. دقة التنظيم منعت الكثير من ركاب القطار في صبيحة التدشين من الوقوف مطولا في الأروقة والغرف والمراقد التي أضحت معرضا مشرعا على ذاكرة تاريخية وفنية وسياسية وفكرية فريدة من نوعها، وحتى يتفادوا الازدحام المتوقع الذي كان من شأنه أن يعطل تقدم الزوار الأوائل وبالتالي إطالة عمر الطابور الطويل، فكر مسؤولو معهد العالم العربي في أسلوب رقابة لا يسمح بالأنانية المفرطة. مراسل "الجزائر نيوز" شهد على تفطن "حراس" استقبلوا الركاب بحفاوة بالغة وحرصوا على إشعار الذين يتوقفون مطولا أمام شاشة عرض فيلم "قبلات حلوة من روسيا" أو أمام فستان ونسخ رواية أغاتي كريستي "جريمة في الأورينت إكسبرس" المعروضة بعدة لغات أو للمس طربوش تركي أحمر أو صحف قديمة نشرت تحقيقات عن القطار والأواني الفاخرة التي استعملها ركاب الطبقة الأوروبية المخملية وعدد غير قليل من نجوم الأدب والفنون والديبلوماسية وهم يطلون على مناظر خلابة أثناء قطعهم آلاف الكيلومترات بين باريس ولندن ومدن أوروبية أخرى وبين إسطمبول ودمشق وحلب وبغداد وأسوان أو مدن الشرق الساحر والحالم قبل تفتته ودخوله عهد الهزائم والانقسام. معرض القطار الخرافي أضحى نافذة مشرعة على سير الشخصيات التاريخية التي خلدته في عشرات الكتب والمقالات والتحقيقات والأفلام وعلى التسلية التي كان يفضلها على آخرى (البوكير مثلا). نوعية المهارة التقنية التي عكسها مبدعون في شتى أشكال التزيين الداخلي والزخرفة (قمرات مزينة بالتراصيع والأسلاك النحاسية) والعيش الفخم والفاخر الذي ميز حياة سادة القوم الأرستقراطي من خلال قطار سكن العقول والقلوب وسلسلة من نماذج التراث الأدبي والفني والحضاري الذي جمع شرقا كان بصدد التراجع بغرب كان يصنع تقدمه الاقتصادي، كانت كلها توابل زيارة تاريخية زادت من ذوق ومعرفة زوار فتحوا صفحة جديدة في تاريخ غزواتهم الثقافية. إنهم الزوار الذين أكملوا جولتهم التاريخية في المعرض الذي احتضنه الطابق السفلي لبناية معهد العالم العربي، وفيه عاين الجمهور على مستويين "متحف" الأورينت إكسبرس من خلال موجودات ومستندات استقدمت من الأرشيف وملصقات وصور فوتوغرافية بعضها معروض في واجهات بشكل حقائب وكأنها إيحاءات بالسفر. الأورينت إكسبرس وسينما الجريمة والجواسيس كما كان متوقعا تم التركيز في المعرض الداخلي على التجسيد السينمائي لقطار الشرق السريع بعرض لقطات من أشهر الأفلام التي صورت على متنه وأدخلته تاريخ الفن السابع من بابه العريض وكان أشهرها فيلم "جريمة في الأوريون الاكسبرس" الذي استوحاه المخرج سيدني لوميت من الرواية التي كتيتها أغاتا كريستي عام 1943. بدأ تاريخ القطار مع السينما عام 1934 حينما أنتجت شركة فوكس فيلم "الأريونت إكسبرس" للمخرج الألماني بول مارتان الذي جسد رواية غراهام غرين، ولم يستطع المخرج بسبب طغيان مقاربته الأكاديمية من ضمان نجاح فني رغم مستوى أداء الممثلين نورمن فوستر ودوروتيه برجيس وجورج شنيدرمان وتشويق قصة جواسيس البلدان الشرقية. ألفريد هتشكوك عمق روح الجوسسة على متن القطار الشهير في فيلمه "اختفاء امرأة" الذي صوره عام 1938 مستعملا ديكور الفيلم الأول نفسه، وقام بدوري الفليم كل من ميخائيل ردغريف ومارغريت لوكوود، وروح الجوسسة نفسها هي التي سيطرت على فيلم جاك دوري "جلد الآخرين" عام 1966 الذي تألق فيه لينو فاتورا الممثل الفرنسي الراحل الإيطالي الأصل في دور المخبر. عام 1963 ، عرف منعرجا تاريخيا زاد من شهرة القطار الخرافي بتصوير فيلم "قبلات حلوة من روسيا" للمخرج ترنس يونغ الذي وظف موهبة الممثل الأميريكي الشهير شين كونري "جيمس بوند" والممثلة دانييلا بيونشي مجسدة دور الجاسوسة الشرقية التي استطاعت أن تعبر إلى الغرب، وعرف الفيلم نجاحا كبيرا بفضل المطاردة المشوقة التي احتضنتها أروقة القطار."سفر مع عمتي" للمخرج الكبير جورج غوكور صور هو الآخر بعض المشاهد على متن الأوريون إكسبرس عام 1972 وكرس المخرج مجددا اسم غراهام غرين صاحب الرواية التي استوحي منها السيناريو كأحد أشهر الأدباء الذين خلدوا ملحمة قطار الشرق، وتناول الفيلم قصة العمة أوغستا (الممثلة كاتارين هبرن) التي جالت عبر أوروبا على متن القطار رفقة ابن أخيها الموظف في البنك. وكما كان منتظرا، استطاعت الروائية أغاتا كريستي أن تدخل قطار الشرق في تاريخ جديد وغير مسبوق عام 1974 حينما تألق المخرج سيدني لوميت في الفيلم الذي عرف باسم تحفة الروائية التي قضت ليلة زواجها على متن القطار الذي حلمت بركوبه قبل أن تسافر على متنه عشرات المرات، الأمر الذي ألهمها وأدى إلى تصورها جريمة قتل رجل طعنا بالسكين. الفليم عرف نجاحا كبيرا ليس بفضل قصة كريستي السوداء المرعبة التي ساهمت في تعميق شهرة قطار الشرق كما لم يفعل أحد من قبل فحسب بل بسبب مشاركة الممثلة انغريد برغمان وشين كونري وأنطوني بركينس والبير فيني وفانيسا ردغرف ولوران باكال. كان فيلم "شارلوك هولمس يهاجم الأورينت إكسبرس" الذي أخرجه هربير روس عام 1976 آخر الأفلام التي خلدت ملحمة قطار الشرق، وتناول الفيلم قصة كونن دويل التي كتب عن البطل (روبير دووفال) الذي صعد القطار في فيينا لإنقاذ امرأة (فانيسا ردغريف) خطفها سلطان تركي. الفيلم أرخ هذه المرة لقطار الشرق بتصور غربي لا يحتاج إلى تعليق.