محنة الأمة وصانع غمتها في انفلات التعقل والعقلنة، الانفلات بهيمنة النزوات والأهواء والاعتبارات التاكتيكية والظرفية... بتسخير المعرفي لخدمة أجندات محددة، خدمتها ليس بتشكيل مرجعية بلورة محتوياتها وإنما بقولبة الطرح تبعا لما تؤشر إليه مؤشرات مراكز القوى.. وأيضا بالانغماس في اندفاع الحشود. ذلك ما يجذب المصير نحو متاهات المسخ. قامات فكرية ومعرفية مهمة ارتهنت لحسابات قوى النفوذ المالي والسياسي وقبلت بالدور الهاماني إلى جانب النفوذ الفرعوني والقاروني فأنتجت الفظاعات وصنعت الأصنام والآلهة، صنعت الطاغية، والطاغية يمكن أيضاً أن يكون كما كتب خيري منصور: "ضحية بمقياس آخر، ضحية لمن أوهموه وزينوا له الخطايا وتخصصوا في تبرير الحماقات لاسترضائه لكن على حساب مستقبله، ومن لم يمت بحجارة الدب الأحمق الذي حاول إنقاذ صاحبه من الذبابة مات بفضل سانشوا الذي يصفق له كلما انكسر سيف من سيوفه على طواحين الخشب. ومن تخصصوا في ادعاء الحملِ الكاذب وهيأوا له القابلات والمهود، والفجر الكاذب وأطفأوا القناديل، ورّطوا أجيالاً من شعوبهم بكوارث تعذّر تداركها قبل بلوغ الهاوية". العرب اللندنية 6 أفريل 2014 . بعض المعتبرين من الكبار يباشرون تسخير الكلمات لخدمة مشاريع دوائر سلطانية مرتبطة بقوى كبرى، مشاريع تشتغل على هندسة الحواجز و فتيت المفتت بتكثيف الانشطارات على أسس مذهبية وعرقية... ويراكمون سرديات الكراهية والفوبيات المتعددة، وانخرط في التيار باحث مهم هو سيد رضوان الذي يكتب مقالا أسبوعيا في الشرق الأوسط، يعيد فيه التسويق لطرح الموقف الرسمي السعودي وما يتصل به من تجييش ضد إيران وتكثيف للمواجهة بين محوري السنة والشيعة، وفي مقال نشر مؤخرا بالشرق الأوسط شن حملة ضد من اعتبرهم وراء الحملات ضد الإسلام السني، وكتب: "جوهر هذه الأُطروحات الضخمة، فهو الحملةُ على إسلام العصر الوسيط، أو الأرثوذكسية السنية، أو التقليد الأسود والجامد، أو بصراحة الإسلام السني. وهذا الفنُّ أو الأدب الإداني يزدهر الآن. أمّا أبوه الشرعي فهو الراحل محمد أركون. فقد أراد أولا تحطيم كل الأرثوذكسيات لأنها حجبت عنا القرآن والإسلام الأول. ثم قرر أنّ المهمة التحريرية تنقضي أو تتحقق بضرب الأرثوذكسية السنية، كما قال. أما الأرثوذكسية أو الأرثوذكسيات الأخرى المسيحية أو الشيعية فيجب تحطيمها أيضا، لكنّ المهمة معها أسهل، ثم إن فيها باطنية وفيها خيالات وأساطير زاهية تبعث على البهجة، وليست حروفيةً نصوصيةً قاتمة مثلما هي عند السنة. وفي النهاية فإنّ الأصوليات الإسلامية الحاضرة تستند إلى تلك الأرثوذكسية القديمة لا غير. وقد ذكرتُ له في أواسط الثمانينات أنه لا علاقة حقيقية بين التقليد الإسلامي القديم، والإحيائيات الحاضرة، وإنما هو انتماءٌ رمزي وتأويل تأصيلي. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الاستمرارية التي يقتضيها التقليد، وبين التأصيل الذي تلجأ إليه حركةٌ جديدةٌ للشرعنة والتسويغ: فكيف تقول يا رجل بالاستمرارية، وأنت من أتباع قطائع فوكو، وبنيويات فلان وعِلاّن؟ وبالفعل فقد سارع الرجل إلى وضع كتاب باسم: استحالة التأصيل! ثم ما لبث أن نسي كلَّ شيء، ولجأ هو وتلامذته حتى اليوم (توفي أركون عام 2010) إلى تصفية حساباتهم مع الإسلام السني القديم (من القرآن وإلى محمد عبده) بحجتين: التقليد المتجمد، والأُصوليات القائمة اليوم على ذلك التقليد". وذكر إلى جانب أركون كلا من عبد المجيد الشرفي وجورج طرابيشي وعزيز العظمة وأدونيس. وأضاف قائلا: "هناك إذن مخاضٌ عظيم بداخل الإسلام. وقد دخلت فيه ضدَّ الدين فئتان: فئة باسم التنوير والتحرير، وفئة باسم الإسلام الشيعي ضد الإسلام السني. وإذا كان الإيرانيون وأتباعهم يفعلون ذلك من أجل مصالح عاجلة دونما تفكيرٍ بالعواقب، فلستُ أدري ما هي مصلحةُ الكاتبين العرب في الحملة على الدين بحجة الإصلاح، وقد كان بوسعهم إذا شاؤوا أن يكافحوا الأصوليات والشموليات مباشرةً، ودونما حاجة لإثبات "سنية" هؤلاء أولا، ثم الحملة على أهل السنة منذ كانوا، وهم اليوم 90 في المائة من المسلمين في العالم". الشرق الأوسط 18 أفريل 2004. والعجيب في طرح سيد رضوان أنه يوهم بأن من ذكرهم يخدمون مشروع ملالي إيران أو من أتباع نصر الله... إنها آلية أخرى من آليات الحجب والتعمية، حجب الحقيقة وتعمية تطمس كامل زوايا المشهد ... وقال جورج طرابيشي في رده عليه: (وصائغ بيان الاتهام لا يتردد في أن يتبنى هذه الحصرية بقوله في السطر السابع من مقاله إن المقصود بالحملة التي يقودها حاملوها الافتراضيون هو "بصراحة الإسلام السني". ولنكن بدورنا صريحين، ولنقل إن ذلك "الإسلام" الذي يحضر بإطلاقه في العنوان يخلي مكانه في النص ل«إسلامَيْن": الإسلام السني والإسلام الشيعي. ففي نص لا يتعدى تعداد سطوره 42 سطراً تتردد 26 مرة ألفاظ "السنة" و«الشيعة"، و«السنية" و«الشيعية"، و«السني" و«الشيعي"، مع التوكيد مراراً على أن هدف الحملة المزعومة هو "تحطيم الإسلام السني" و«تحرير العرب والمسلمين من الإسلام السني على وجه الخصوص" و«التحرير والتطهير ضد الإسلام السني فقط". وفي مقابل هذا "الإسلام السني" الضحية لا يحضر "الإسلام الشيعي" والمثقفون الخمسة المتآمرون معه إلا بصفة الجلاد. وشخصياً لست بصدد الانتصار للضحية، ولا بصدد تبرئة الجلاد. وإنما إن يكن هناك من ضحية في اعتقادي فهو "الإسلام" بإطلاقه وبألف ولام التعريف، وإن يكن هناك من جلاد، فهو الذي يتبنى ويروِّج لتلك القسمة المانوية للإسلام إلى إسلامين: واحدهما خيِّر كل الخير، وثانيهما شرير كل الشر، أو بالعكس: واحدهما شرير كل الشر، وثانيهما خيِّر كل الخير. وما دام السيد رضوان السيد قد اختار لبيانه الاتهامي عنوان "الحملة على الإسلام"، فلأعترف له أن هذه الحملة قائمة على قدم وساق فعلاً، ولكنها بالضبط تلك الحملة التي تجعل من الإسلام إسلامين، وزيادة في الطين بلّة: إسلامين متنابذين ومتناحرين حتى النفَس الأخير. وهنا ليسمح لي السيد رضوان السيد أن أسأله: إذا كان الإسلام هو الدين الذي نزل به القرآن، فهل القرآن سني أو شيعي؟ وإذا كان من أُنزل عليه هذا القرآن هو الرسول محمد، فهل كان هذا الرسول سنياً أو شيعياً؟) الشرق الأوسط 24 أفريل 2004 ورد الدكتور محمد عبد المطلب الهوني بمقال حمل عنوانا دالا: "الخليج لا يحتاج إلى «قرضاوي» آخر" ومما قاله: (يتهم رضوان السيد هؤلاء المفكرين بأنهم جندوا أنفسهم لهدم الإسلام السني التكفيري لمصلحة الإسلام الشيعي والانتصار للإيرانيين وحلفائهم وتنظيماتهم المسلحة، في كل من العراق وسوريا واليمن والبحرين. إن إطلاق هذه التهم في حقيقته جريمة، أما من الناحية الفكرية فهي تدل، بافتراض حسن النيات، إما على عدم القدرة على فهم ما كتبه هؤلاء، أو تدل على محاولة ليّ عنق الحقيقة لمصلحة عاجلة، القصد منها التقرب إلى هيكل العجل الذهبي للسياسة بقرابين أسماء فذة امتنعت عن أن تشرك بوحدانية الحقيقة من أجل مغريات الأباطيل. أما من الناحية الواقعية، فإنني أتحدى الكاتب، وعلى رؤوس الأشهاد، أن يثبت ما يقوله عن "عزيز العظمة" و«جورج طرابيشي" و«عبد المجيد الشرفي"، من أنهم انتصروا لأي طائفة ضد طائفة أخرى، أو كتبوا أو حاضروا في تمجيد الطوائف، سواء أكانت شيعية أم سنية أم خارجية، أو حتى أدلوا بحديث صحافي أو مقابلة تلفزيونية يشتمّ منها ولوغهم في مثل هذه الفعلة. أما اتهام الراحل الكبير "محمد أركون"، بأنه سخّر قلمه لتحطيم الإسلام السني، فهذا ما لم يستطع قوله حتى القرضاوي. وإن قراءة محمد أركون، تحتاج إلى جد وصبر لا يمكن أن يتحققا بمجرد الاطلاع على عناوين فصول كتبه خلال فترات الاستراحة القصيرة للمؤتمرات. ما كان يريده محمد أركون، هو تفكيك التراث، لا تحطيمه، من أجل إسلام أجمل، ومسلمين متصالحين مع عصرهم ومع تاريخهم، وبالرجوع إلى النص القرآني وينابيعه الصافية لاستنطاقه وتأويله حتى يكون لدينا فقه عصري جديد ينقذ المسلم من وضعيته التعيسة التي يعيش فيها). الشرق الأوسط 25 أفريل 2004 وفعلا كما عنون الهوني مقاله يعيد رضوان استنساخ القرضاوي بكيفية تحمل المفارقات، ويتكلم عن أركون بنفس إشارات القرضاوي ويسهب في الفصل بين السنة والشيعة كما يكتب فقهاء المملكة وكما صار يتكلم القرضاوي في السنوات الأخيرة. حديث سيد رضوان عينة معبرة عن ما يطبع المتداول عبر المنابر.. وإلى جانبه يتفشى تحت تأثير وهج كاميرات الفضائيات وجاذبية وسائط التواصل الاجتماعي، تبدد العقل النقدي، العقل المتحرر والمحرّر، تبددا بالخضوع لسطوة الجمهور، وبالتالي الانخراط في اندفاع القطيع الذي يقطع جسور العبور نحو الأنوار. السياق الزمني له خاصياته وسياقنا سياق طفرة في تكنولوجيات الاتصال وما تجسد بانتشار الفضائيات والمواقع التفاعلية، انتشارا تشابكت به المجتمعات والأفراد، ولقد التفت الكثير من العلماء والمفكرين لما أفرزه التطور واستخلصوا خلاصات جديرة بالاعتبار ومن السمات التي وسم بها التطور الوضع ما عبّر عنه الكاتب جيل فنشيلستن ب«ديكتاتورية الاستعجال" فالتدفق المتواصل للأخبار تحول إلى نوع من رهن المتلقي وسجنه في الآني.