يلاحظ المتتبع للشأن الجزائري أن مرجعياتنا الجديدة اختزلت في نقاط قليلة تحدد قناعاتنا وهويتنا ومستوانا الثقافي والفكري: كرة القدم، الغناء الفاسد، الشعوذة والدجل، ثم الطبخ وأنواعه، إضافة إلى الخطابات السياسية الباهتة التي تحتاج إلى تثقيف وأخلاق ومنهجية، هذه هي العناصر التي حلت محل البحث والعلم والكتابة والتفسير والاجتهاد، وهناك، إضافة إلى هذه المرجعيات المهيمنة، ظاهرة النكتة التي بدأت تجد لها مكانا في وسائل الإعلام المختلفة، وفي الكتب التي تطبع هنا وهناك لأغراض تجارية بحتة، وليس لغاية تربوية. معارض الكتاب التي تقام في الجزائر، شأنها شأن المكتبات وقاعات السينما التي أغلقت أو تحولت إلى مطاعم متخصصة في الوجبات السريعة، مؤشرات دالة على توجهات العامة وتدهور المجتمع في ظل تبني خيارات ليست جوهرية في البلدان المتحضرة التي تتخذ كرة القدم لعبة، وليست قضية ومصير أمة لا تنتج إبرة، ولا هي مؤهلة لصناعة جيل يمكن الاتكاء على عبقريته. إهتمام الجمهور العريض ينصب على هذه الخيارات التي تم تكريسها مع الوقت، دون الاهتمام بالحقول المعرفية والعلمية التي راحت تفقد مكانتها تدريجيا، بصرف النظر عن الأخبار المضللة التي قد يمررها المسؤولون والمثقفون والكتَاب عبر التصريحات التي لا مصداقية لها من الناحية الواقعية. ذلك أن الفكر، مقارنة بهذه المرجعيات، ليس ذا شأن، ولا يمكن أن يتقوَى في ظل هذه الاستراتيجيات التي تسعى إلى إذلال العقل، ومن ثم استبداله بهذا البذخ الفاحش، الذي يمكن أن يكون مجرد كماليات تحولت إلى جواهر. وقد تكون قيمة الكتاب في الصحف والقنوات التلفزيونية والإدارات والجامعات والمؤسسات الرسمية والوزارات المختلفة دليلا على مكانته المتدنية أمام ما يخصص من صفحات وحصص وميزانيات لكرة القدم والغناء والطبخ والشعوذة، إذ تعمد كثير من اليوميات الوطنية، على سبيل التمثيل، إلى تخصيص، إضافة إلى الإشهار، أربع صفحات لكرة القدم، وصفرا للثقافة، بصرف النظر عن المسوغات التي تقف وراء هذا الخيار الذي قد يكون منطقيا وذكيا، وضروريا لتماشيه مع طبيعة المرحلة التي تحتكم إلى مبدأ نفعي قوامه: الغاية تبرر الوسيلة. الشارع الجزائري، بقضه وقضيضه، أصبح فقيها في كرة القدم والغناء الفظ والدجل، كما هو حال بعض القنوات التلفزيونية وأجهزة الإعلام وبعض الشخصيات التي سعت إلى تكريس هذه المرجعيات بالشكل التي هي عليه اليوم. كما أصبح هذا الشارع بارعا في هذه العلوم التي تعكس المستوى الذي وصلنا إليه بعد عشرات السنين من الاستقلال والشعارات. أما الاستثناءات فتظل استثناءات لا يمكن أن نقيس عليها. لذا تبدو الثقافة شيئا شاذا وغير مفيد مقارنة بكرة القدم والشعوذة والأغاني البذيئة التي أفسدت المدرسة والجامعة والمجتمع بمستواها المنحط، وبدعوتها إلى العنف والانحلال. إنتهى فعلا زمان يوغرطة والمعز لدين الله والأمير عبد القادر والعربي بن مهيدي والإمام عبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي وبن شنب والإبراهيمي ومفدي زكريا ومحمد ديب ومالك حداد والطاهر وطار وعبد الرحمان الجيلالي، وغيرهم من القامات التي صنعت أمجادا كثيرة بقيت واقفة كالأهرام، وكانت أنوارا حقيقية قدمت خدمات جليلة للأجيال المتعاقبة. بيد أننا، بعد سنين من الاجتهاد والسياسات الفاشلة، وصلنا إلى استحداث معتقدات جديدة نتوقع أن تنقذ البلد. يجب الإقرار، في ظل هيمنة هذه المرجعيات، بأن الخطاب الجزائري المعاصر، المؤثث بهذه القيم، لا يرقى إلى مستوى إنتاج الأفكار والقيم المؤهلة لإخراج المجتمع من هذه المرحلة المظلمة التي أنجزناها بأموال باهظة، خاصة إن نحن أضفنا إلى العناصر السابقة ما تعلق بالاختلاس والانجازات الوهمية التي أصبحت معتقدا، وقناعة من القناعات التي يتم تسويقها بكثير من الفخر والاعتزاز. ما يعني أن الفشل نفسه غدا قاعدة ومرجعية وجب التنويه بفضائلها. كما لا يمكن أن ننتظر من مجتمع يعبد كرة القدم والأغاني الرديئة والشعوذة بأن يكون مجتمعا محصنا من الانهيارات الاقتصادية والأخلاقية، أو قادرا على المساهمة في حركية التاريخ وصيرورته. لن يستطيع مجتمع من هذا النوع أن يسهم في ترقية نفسه، كما لا يمكنه أن يكون حاضرا كقوة لها فعاليتها. وأكثر من ذلك، فإن مجتمعا لا يستطيع أن يعبر عن نفسه بلغة واضحة المعالم، بسبب بعض هذه المؤثرات وغيرها، لا يمكنه أن يستمر في التاريخ إلا كصورة لبهلوان أريد له أن يكون كذلك، أو كقيمة يصنعها له الآخرون لمقاصد تهمهم، وهي صورة متغيرة بحكم ارتباطها بالمنفعة الظرفية التي يرغب فيها هذا الآخر. لقد عملنا على تخريب منجزاتنا السابقة وبعض مرجعياتنا إلى أن غدونا بلا اتجاه واضح المعالم، بلا هدف، بلا أفكار، بلا مقومات، بلا سيادة، بلا مرجعيات حقيقية كتلك التي صنعها الأجداد بكد وتؤدة، وقد تبرز موازنة بسيطة مدى فظاعة التراجعات التي أنجزناها بأموال الريع، ويجب التأكيد على إنجاز التراجع الذي قوامه كرة القدم والدجل والغناء التعيس الذي جعلناه من مكونات شخصيتنا الوطنية، وأحد مقومات النجاح والهيمنة. يمكن للدراسات اللسانية والدلالية والنفسانية والاجتماعية المتقدمة، إن حدث أن اهتمت بمكونات الخطاب الجديد، وبحقوله المعجمية والدلالية، أن تخرج بنتائج علمية باهرة تبين حدودنا وحجم تقهقرنا. خطاب الشارع الجزائري وكثير من المؤسسات عبارة عن مأساة وطنية، وإذا أضفنا إليه مستويات الخطاب السياسي أصبحنا أمام معادلة قريبة من التفكير السريالي لأنها تتجاوز طاقة العبث، كما رسم جغرافيته المفكرون والكتاب على المستوى العالمي، وفي سياقات فكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية معروفة. لقد تجاوزنا العبث ولم تعد هناك ضوابط قادرة على تحديدنا. نحن في عصر نبوَة يصعب أن يتكرر مرة أخرى في تاريخ الأمم، أما الأنبياء فهم اللاعبون التعساء والمطربون الأكثر تعاسة والمشعوذون الذين حلوا محل الأدباء والأطباء والفنانين الحقيقيين والعلماء ورجال الدين، الذين كان لهم أثر فيما مضى. هذه هي علومنا. أما المؤسسات التي تصنع هؤلاء فمنتشرة في البلد برمته، وخلف المكاتب وفي الدراسات الاستشرافية التي تخطط لتعميم الأخطار والبهيمية والإحباط والموت. هل يمكن لمرجعيات من هذا الصنف أن تضمن مستقبلنا؟ الدولة الجزائرية المعاصرة لا تهتم بموت عالم قدر اهتمامها بسعال لاعب في فريق يستنزف أموال الدولة دون فائدة. الجزائر مصابة بالتسطح العام، وهي مطالبة بإعادة مراجعة فلسفتها إن كانت تريد أن تبني نفسها كما الأمم المبجلة. هناك خلل كبير ومغالطات وتضليل وتقوية خرقاء لمرجعيات ليست مؤهلة لإنقاذ البلد من محنته، إن لم تسهم في رسم تخلفه بملايين الدولارات التي توضع في غير محلها تكريسا لمعتقدات مخلة بالحياء، ومخلة بالتفكير المبني على أسس قادرة على ضمان وجودنا في عالم يفكر جيدا، ويبصر جيدا، ويستثمر في الإنسان وفي الذكاء البشري، وليس في الأقدام والسحر والكلمات السوقية التي أصبحت تنافس القرآن والحديث والتفسير والنشيد الوطني. الدعم المقدم لفريق ينتج العنف والفشل والخسارة كافٍ لطباعة قرابة عشرة آلاف كتاب سنويا، مضروبة في عدد الفرق المشابهة، أي ما يكفي لتغذية العقل في ما ينفع البلد. بيد أن الولايات والشركات الوطنية، والشركات الخاصة التي تقتات من البنوك العمومية، كما رجال الأعمال والأثرياء الجدد لا يستطيعون، بحكم مرجعياتهم وديانتهم وإفلاسهم المعرفي والأخلاقي، تقديم عشرة دنانير لمخبر يهتم بالثقافة أو بداء السكري أو السرطان، أو لمستشفى يهتم بمعالجة المرضى. تلك حقيقتنا، وهؤلاء هم نحن في ظل هذا المسخ العام. الباحث الجزائري في مخبر من المخابر المكرسة يتقاضى خمسمائة مرة أقل مما يتقاضاه لاعب في أحد الأندية المتخصصة في إنتاج الصخب. كما أن اللاعب، شأنه شأن المطرب الذي لا يعرف تكوين جملة مفيدة، والمشعوذ، وغير ذلك من الكائنات الغريبة التي تحتكر الرأي وتصنع السياسة، هو من يستطيع أن يقوم مقام العالم والأديب والمثقف والجامعي، وهو الذي سيكون صاحب القرار بحكم قدراته المادية وما ينسجه من علاقات لا يقدر عليها العقل لأنه فقير إلى المال والاعتبار، ولأن المال هو من يقرر في البلدان المصرة على التخلف، فإن هذه المرجعيات المقدسة هي التي ستوجه البلاد إلى حيث شاءت. إن شراء حق بث ثلث مباريات كأس العالم التي ستجري في البرازيل، أي عشرين مقابلة، بتكلفة مالية قدرها مائتان وخمسون مليار، كما نقلت ذلك وسائل الإعلام، مضافة إليها العقوبة المسلطة على التلفزيون الجزائري من قبل القناة الإماراتية، والمقدرة بثلاثة عشر مليار، إضافة إلى حقوق اللاعبين والوفد المكون من سبعين عضوا، وما إلى ذلك من التكاليف التي قد تصل إلى ألف مليار، كاف لطباعة مائة وأربعين ألف كتاب، وكاف لدفع الراتب الشهري لقرابة خمسة ملايين عامل، كما يكفي لتمويل خمسمائة مخبر مدة سنة، أي خمسة قرون من التفكير. لا أدري ماذا ينتظر العقل من مجتمع مصاب بالغناء الفاسد والشعوذة الناجحة وكرة القدم الفاشلة والخطاب الذي بلغ درجة كبيرة من السطحية والاستهتار بالقيم والأدوات الكفيلة بتمكين البلد من امتلاك المعرفة الفعالة. إنه ليتعذر علينا، بالنظر إلى قيمة هذه المرجعيات التي تحوَلت إلى نوع من الديانة، الحديث عن إنقاذ المجتمع في غياب المنطق والتوزيع العادل للثروات. نحن مستعدون لتقوية هذه التخمة بميزانية أسطورية، لكننا لسنا مستعدين لتطوير المستشفيات المريضة والمخابر المفلسة. كما أنه بمقدورنا تبذير الملايير من أجل مشاهدة مقابلة ودية تعيسة، غير أن ذلك لا يحدث مع الإبداع لأنه عبارة عن حشو في سياق المرحلة، شيء فائض عن الحاجة. على العلم أن يسكت أو يهاجر ما دامت الكرة هي التي تفكر وتبني وتبحث وتقرَر، وعلينا أن نعلن عن موت العقل وننسى الثقافة إلى إشعار آخر. إنه لمن الغباء الحديث عن العقل في ظل سيادة هذه المرجعيات المقدسة.