معركة الفلوجة 2016 كنتُ دائما أكتب عن الانهزامية، وفي لحظة من الزمن المتوقف على أعتاب اقتحام الفلوجة، وجدتني أكتشف أنني غرقت في انهزاميتي الخاصة منذ آخر مقال دبّجته في العام 2009 عن حرب غزة.." تركيا الكمالية تنتفض ضد إرهاب عربي بارد".. ومنذ ذلك الوقت لم تطاوعني يُمناي على رسم حرف واحد وهي التي لم تخذلني منذ درست علم السياسة.. أيُّ كياسة ؟؟! وكلما بحثت في دفاتري وأوراقي أجدني وبشغف بالغ أُعاود تلاوة ما كتبت منذ زمن وكأنّه آخر ما كتبت.. وما سأكتب... وقد يُساورني سرورٌ غامر أثناء مراجعتي لتلك الأفكار والمواقف، كما ينتابني شعور بأنني يجب أن أكتب.. و تغزوني همّةٌ عارمة ولكني أُحجم كل مرّة عن الكتابة مكتفيًا منذ ذلك الوقت بتعاليق وخواطر سياسيّة أضعها ضمن أسوار فضاء تواصلي افتراضي فرض منطقه التكبيلي على الجميع.. أعتقد على الجميع.. وفي هذه اللحظات التي أتشجع فيها للكتابة مجددا أعتقد أنني أكتشف وربما لأول مرة أن عَمَى اللّون الأزرق كان آسراً بالفعل وأنّه ومنذ أول تعليق عجزت عن الكتابة والتحليق.. نعم لعمري أن الشُّطّار كانوا من المغادرين الأوائل للمطار الأزرق الذي يُلوِّن علم اسرائيل أيضاً.. وحرّروا أبدانهم وعقولهم بعد إدراك أنّ الاستلاب والاستقطاب نحو جدالات عقيمة أصبح ينهش الوقت ويُذهب السّمت!! وحِيال نقاشات رعناء وتسلُّقات لا تماثلية Asymmetric لِ "نُخب" جديدة تمتهن حرّيةً بلا ضفاف وتقذف براجماتها على العلم والأدب والدِّين وأهل العلم والأدب والدِّين.. ضاعت الكتابة وضاعت معها همّة شابّ عربيّ استغرق في انهزامية تقع تحت عتبة التّنبيه جرّاء الوضع الحضاري الماثل والذي لم يكنُس بعض أحزاننا منذ انتفاضة الأقصى العام 2000.. هي العودة إذاً مع فلّوجة لم تثكل بعد.. مع فلوجة تعود بي إلى نشوة انتظار نصر وعدني به الصّحّاف.. وحرب شوارع كانت ستُجهز على مغول العصر وعُلوجه على أسوار بغداد.. حتّى أعلن الدُّوري: "انتهت اللعبة " ! فلُّوجة 2016 غير فلُّوجة 2003.. فلُّوجَتان ووضعان حضاريّان متمايزان؛ كان العراق أكثر من استفاد من لعنة الثلاثاء الأسود الأميركي العام 2001.. وسَطَّرَ Paul Bremer؛ أول حاكم مدني لعراق جديد عبر عولمة العراء في أبو غريب وصناعة الإرهاب عبر عصابات جُلبت من شيكاغو و ما عُرف أيضاً ب: Black water ؛ أين أضحت بغداد الرشيد مسرحاً لتفجيرات يومية غريبة ولحد كتابة هذه السطور.. لقد بدأ عراق الصّقور.. أو هكذا أراده الصُّقور؛ تجزئة المُجزّأ وتفتيت المُفتَّت .. وبينما كانت الطّائفة على مرجل كانت الفلوجة في قلب الحدث؛ مقاومة كسرت مقولة المتملق الياباني Fukuyama وتهاوى النموذج الليبرالي أمام الانتصار الفلوجي العام 2003 مع بداية الإرهاقراطية(*) Terrocracy .. ثم تهاوى كلا النموذجين في بركة دم كبيرة... وكتب أحدهم في إحدى مدننا على يافطة دكانه: حلاق الفلوجة، اعتزازا بما سطرته ملاحمها منذ بداية احتلال العراق.. لكن حكومات الاحتلال المتعاقبة في العراق تكون قد آلت على نفسها حفظ "الجميل" لهذا النموذج المقاوِم إلى حين نضجت "الطّائفة" Sect ؛ وحينذاك كانت الوسيلة والغاية وبقي لاكتمال المعادلة المكيافيلية أن تختلق المُبرّر.. فكانت "داعش"، وهي ما لزمت أن تكون.. وأي صناعة إرهاب تستقيم دون اختلاق خطر كي تتم محاربته وتنشيط سوق تكدّست أسلحته؟؟ مخازن التفكير.. وجاهزية التكفير تكفُر مخازن التفكير ومراكز الأبحاث Think-Tank بالموضوعيّة -حارسة الحضارة الأميركية- حينما يتعلّق الأمر بالرؤية الهنتغتونية للآخر، وتُجنِّس أي "مُبرّر" تختلقه هي كخطرٍ داهمٍ بهذا الفكر التكفيري ليستطعمه كل بريءِ فهمٍ فيصطفَّ معها في جهادِ هذا الخطر الدّاهم أين يندمج عمليّاً في صراع معه ومع ذاته الحضارية التي –يعتقد- هذا البائس أنّها مصدر هذا المُنتَج الإرهابي "داعش في حالة الفلوجة"؛ هكذا يتبدّى البعد الدّيني في إدارة الصراعات الإقليمية والعلاقات الدولية بشكل عام وخصوصا في شكله المذهبي "سنة-شيعة" وهو ما يتجلّى بقوة في حالة فلوجة 2016 والذي يتم تسويقه بامتياز عن طريق القولبة الاعلامية، وهو تقسيم جديد للحدود السياسية للدّول الحاضنة للشّعوب التي تدين بالإسلام؛ فهنتنغتون لم يتكلّم أيّ كلام، والمقرّر الأميركي لا يصرف أكثر من 400 مليار دولار سنويّاً على البحوث والتّطوير ثمّ لا يضع نتائجها موضع التنفيذ، وأنياب الواقعية السياسية لم تُصقل للزّينة، ومنذ انشاء دوائر الدراسات الدّينية Religious Studies Departments على مستوى الجامعات كانت ولاتزال تعكف على النّفاذ الأكاديمي والتحليلي لسوسيولوجيا الدين في مجتمعات العرب والمسلمين و تاريخ الأديان، في حين أنّ دوائر التعليم عندنا لا تزال تنقل وب "أمانة علمية" حادّة علم السياسة مُستلبًا وحتى تاريخ العلاقات الدولية مُبتسراً، ولعمري بذلك هي تعمل على تكريس المركزية الأوربية أكاديميّاً وتُوقِع بآلاف الشباب سنويًّا في مجاهل تناقضات حضارية وجاهليّة أكاديميّة تفتك بفكر الدّارسين و تجعل منهم كائنات حضارية تتلذّذ بتعذيب ذواتها؛ فلا هي طالت علوم غير المسلمين كما يدرسونها ونحن نعتمد في تدريس بعض الوحدات على كائنات بافلوفيّة تلهث وراء أرقام هواتف بنات المسلمين وتجعل من العلامة آلهة في نظر الدّارسين، ولا هي نالت شرف الاطلاع على فُتات تاريخ الأندلس.. وكأني بالأندلس و الحروب الصليبية لا تمتلك الحق في أن تكون جزءً من تاريخ العلاقات الدَّوليّة!!؛ أما Westphalia 1648 التي أنهت ثلاثين سنة من الحروب الدّينية في أوربا ومهّدت لقيام اسرائيل بعد ثلاثمائة سنة أخرى فمن يجرؤ على شرحها لطلبة أُشربوا اليُتم الأكاديميّ قسراً ؟!! أمام مهازل التفكير هذه طبعًا نحن لا نجرؤ على صناعة مخازن للتفكير لكن، من يُنبّه فقط الدّارسين في جامعاتنا المسكينة أنّ الصّراع في فلُّوجة 2016 هو صراع حضاري بالمصطلح الأكاديمي "المهذّب"، أمّا أن ينبريَ أكاديمي شجاع يمتهن التعليم العالي وليس البحث العلمي ويلعب على المصطلح السياسي تزلّفاً لطائفة أو فصيل سياسي أو ديني فتلك دَروَشةٌ سياسية بكل المقاييس، وبين المهازل والدَّروشة يتلاشى التّحليل السّليم. معركة الفلوجة.. تستلهم غزوة الخندق ! لم أتفاجأ وأنا أُنصت لأحد قادة "جيش الحشد الشعبي" وهو يبرّر فكرة تواجد قاسم سليماني كمستشار ايراني في أرض المعركة، ورغم أنّ أي دارس مبتدئ للعلاقات الدولية يدرك أن العراق ومنذ العام 2003 يخضع لإحتلال أميركي بحكومات ايرانية متعاقبة ألهبت ميليشياتها العسكرية أرض وسماء بغداد بالتفجيرات اليومية؛ أجل بغداد عاصمة عراق الرشيد يحترق كل يوم مابين 20 إلى 25 من أهلها إرواء لشغف طهران-نجسان، وايران التي قامت على أساس ديني (مثلها مثل اسرائيل) وصدّعت عالم المسلمين وغير المسلمين بما صدّرته للعالم العام 1979 على أنه ثورة و.. "إسلامية" لا تتوانى في توظيف الدِّين في سياستها الخارجية وهذه المرّة مع هذا القائد الايراني الذي برّر تواجد قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" على جبهة الفلوجة كمستشار عسكري بالإحالة إلى غزوة الأحزاب"الخندق" واستعانة المسلمين بسلمان الفارسي !!..، طبعا الدول تتحايل على بعضها البعض حينما يتعلق الأمر بتكييف حالات التدخل الانساني وواجب الحماية، لكن أن يتم إقحام أحداث تاريخية ذات دلالات دينيّة غايةً في الرّمزيّة في غير سياقاتها الحضارية فهو ما يُعدُّ في أبسط الأحوال ضحكا على الأذقان؛ أذقان البُسطاء وإمعانا في استفزاز طائفي يسيرُ على خُطى مخازن تفكير Think Tank الاحتلال الأميركي منذ العام 2003، ثُمّ أما آن للعقل العربي ومعه المسلم أن يتحرّر؟؟؛ أما زال بعض الأكاديميين عندنا يجْتَزِئُون الرؤية المستقبلية للدَّور الإيراني-الإسرائيكي(**) حيال الدائرة الحضارية التي ننتمي إليها؟!! ألا تنتهج ايران "الاسلامية" اليوم سياسة واقعيةً أميركية الغطاء فارسية الطّموح اسرائيلية الثّمار.. إذن ما مغزى الشيطان الأكبر وبريطانيا الخبيثة؛ أليست منتجات ايرانية لإعادة انتاج التخلُّف والتأخير الممنهج في بلاد العرب والمسلمين، تذكرني هذه المصطلحات بما يلوكه بعض الحزبيين ممن يمتهنون الدّين في مجتمعاتنا وهم يرضعون من أثداء سُلَطٍ لادينيّة Secular powers .. ألا يمارسون نفس الدّور الايراني لكن مع اختلاف جهة الرضاعة؟!!! التحالف .. الغادر؟ العنوان أعلاه هو لكتاب يشير إلى ذلك الحلف المقدّس الذي "كان" يجمع أميركا وإيران وإسرائيل في عهد شاه ايران وأحسَبه اليوم ملائما جدًّا للحالة الغريبة التي تجمع هؤلاء الثلاثة (ونواتجهم الارهابية: داعش، جحش، حالش "الحزب اللبناني") على تنفيذ خطة استعمار جديد يُمكن أن يُصطلح عليه ب : الاستعمار الطائفي Sectarian Colonisation ، ذلك أنّ المُكوِّن الدِّيني هو ما يجمع ثلاثتهم ورابعهم عقل عربي انهزامي يقتات على نواتج هذا التحالف فهو يلوك مصطلحات ومفاهيم مُوجّهة و"تُهَم ومغالطات تاريخية" لم يكلف نفسه عناء البحث في أصولها والسياق الذي أطلقت فيه قديما وحاضراً من مثل: الاسلام السياسي و التطرف الديني و المجتمع المدني والوهّابيّة ،.... وقفز فوق كل ذلك في فضاءات تواصلية إلى جُرأةٍ غريبة على علمائه وقِيمه وكأنّي بنا نعيش عولمة العراء بكل أنساقها الجسمانية (أبوغريب 2003 وَ الصقلاويّة 2016) والفكرية والعقليّة، هكذا يتم اختزال الدّين محلّيّاً و توظيفه دوليّاً؛ من فلسطين و بورما وأركان إلى أدلب وحلب إلى الفلوجة تتويجا للتقسيمات الدّولية الجديدة على أساس ديني-مذهبي؛ وقد تكون الطائفة التي نضجت في دائرتنا الحضارية، على مِرجلٍ هناك أين سنسمع عن احتقان بروتستنتي-كاثوليكي يستنفره تأثير كُرات الثّلج snowball effect أو...دعَواتُ ثَكَالَى الهنود الحُمر Red Indians ! رشيد العَمري بلقرع / كُليّة العلوم السّياسيّة / جامعة الجزائر3. (*) الارهاقراطية: مصطلح خاص بالباحث يقابله بالأجنبي: Terrocracy وهو ادغام من كلمتي الارهاب والديمقراطية الزائفة: Terrorism and Democracy. (**) الاسرائيكية: مصطلح خاص بالباحث ضمّنه في بحث حول تطبيع العلاقات العربية-الاسرائيلية العام 2002 وهو يشير إلى ذلك التفاهم الديني الاستراتيجي بين الولاياتالمتحدة الأميركية واسرائيل.