الدوحة بئسَ السّياسة.. إن لم يكن عِمادها القيام على الأمر بما يُصلحه.. بئسَ إعلامُها.. إن كان بثُّ الشّقاق ديْدَنه، نِعْمَ الكتابةٌ.. للحرف، رَبُّ يسألُه ! الأزمات يلتهمها الاعلام.. فتكشف سوْأَته! بدأ السّجال إعلاميّاً في شكل حروبٍ نيابيّة وبالوكالة عن حكومات أطراف الأزمة الخليجية، ولعلّ من الثمار الجليلة للأزمات هو أنّها إمّا أن تكشفَ الولاءات السياسية والأيديولوجية للوسائل والوسائط الاعلامية أو أنّها تعمل على إقرار وتثبيت هذه الولاءات بشكل يساعد على فهم التسويق الإعلامي لبعض المُنتج السياسي المُروّج له، وفي كل هذا أضحت الموضوعية الحادّة التي تبجّحت بها بعض القنوات الاعلامية لأكثر من عقدين من الزّمان نوعاً من التجاوز غير الأخلاقي في ظل ترويج مهُول لحركة دينية-حزبيّة معيّنة "حالة: الجزيرة- الإخوان"، في حين أنه لا ينكر عاقل أنّها تحوز على كوكبة من صحفيّين لامِعين، إلّا أنّ جهد هذه "النّخبة" مستغرَقٌ في صراعٍ قهري لاتماثلي ومن ثلاث زوايا؛ الأولى من ناحية "أهبلة" الإعلام (ترف إنتاج المصطلحات) من خلال القولبة الإعلامية لكل ما يصبُّ في تجاوز حالة نفسية لِ : "ما قبل الدولة"(على حد تعبير بيار كلاوستر) لكيان سياسي حبيسٍ جغرافيًّا يسعى لدور إقليمي ولو على حساب الاستقرار السياسي لجماعته الأمنيّة (حالة: قطر- دول مجلس التعاون الخليجي)، والزاوية الأخرى: تهتبل فيها هذه "النخبة" الفرصة وغير الفرصة لإثبات نهاية التاريخ عربيّاً وإسلاميّاً ( وليس فوكوياميّاً: فوكوياما صاحب كتاب نهاية التّاريخ وخاتم البشر) عبر إعلان انتصار الأنموذج "الإخواني" من طريق مباشر و ذلك بِتولّي زمام قيادة الفوضى الخلّاقة عربيّاً وتهييج الشعوب إعلاميّا في إطار الحركات الاحتجاجية العام 2011م والتحايل الإعلامي التقني والفنّي لإسقاط أنظمة سياسية قبل أن تتهاوى فعليّاً وبإخراجٍ دعائي على شاكلة أفلام تسجيلية قصيرة برعت هي في تقديمها ! ومن طريق غير مباشر من خلال دعاية تقع تحت عتبة التنبيه أي أنّ المستقبِل لا يشعر بها وهي احتيال نفسي يُستعمل عادة في الإعلانات التجارية، كَأَن يتمّ إظهار هذه الحركة الدّينية الخارجيّة "الإخوان" إعلاميّاً (بمناسبة وغير مناسبة) كخَلاصٍ فكري ديني مقاوِم و نهائي لكلّ مآسي العرب والمسلمين شاملاً ذلك خَلاصُ.. فلسطين، ومن زاوية أخيرة تتعلّق بمغالطة إعلامية مُغيّبة تهدم إدّعاءات "موضوعيّة النّخبة"؛ فمن جهة هي "نخبة" تتباكى على الإنقلابات والتطبيع والمقاومة ويتمّ تسويق ذلك من منظورات حضارية و قوميّة، ومن جهة أخرى ألا يمكن ملاحظة أنّ هذه "النخبة" الإعلامية تقتاتُ ومنذ العام 1996 من نعش الإنقلاب !! زاد الحساب عن الحساب على حدّ قول أحمد مطر و آن تسديد الحساب.. فهل تنقلب "النخبة" على الإنقلاب أم يتمّ تجريم إرهاب الشعوب والشباب أم أنّ الحلّ في أخْلقَة الإنقلاب؟! إنّه الإقتصاد السّياسي.. يا قطر ! أشار صندوق النقد الدولي إلى: "إنّ من المبكر جدّاً تقييم الأثر الاقتصادي الذي سيلحق بقطر جرّاء الأزمة، وقال المتحدث باسم الصندوق جيري رايس للصحفيين: أنّ الأثر الاقتصادي على قطر والمنطقة سيتوقف على مدى عمق تعطيلات التجارة والتدفقات المالية ومدى استمراريتها ومدى تأثر الثقة"، كما "أكد تقرير نشرته مجموعة أكسفورد إكونوميكس أنّ استمرار الحظر المفروض على قطر سيكون ثمنه باهظاً على اقتصادها"، وقد تكبّدت قطر خسائر أوّلية تُمثّل نُذُر كساد اقتصادي جرّاء الحصار الذي فرضته الدّول المقاطِعة بعد غلق المجال الجوي والبرّي والبحري أمام حركة التبادل التجاري من و إلى قطر، فالبورصة القطرية تخسر ما قيمته 10 مليار دولار في أسبوع واحد، وأكثر من90 بالمئة من غذاء شعب قطر يأتي من السعودية والإمارات والتي تستحوذ على 65 بالمئة من الصادرات القطرية للدّول العربية كما أنّ حركة الملاحة الجوّية القطريّة ستشهد تكاليف ضخمة إضافية مادية بالإضافة للوقت أيضا حيث الرحلات أطول، أي أنّ عائداتها ستتأثر جرّاء اجراءات المقاطعة، بالإضافة إلى زيادة تكاليف الشحن بعد غلق المنفذ البري الوحيد عبر السعودية، وكلما طال أمد الأزمة زادت المؤشرات باتجاه كساد اقتصادي حاد حتىّ مع دخول أطراف خارج دول مجلس التعاون والتي بدأت عمليّاً في إجراءات محاولة فك الحصار على قطر (محور إيران-تركيا) وتقدّمت بعرض تموين غذائي على رداءته محلّيّاً (حالة: إيران؛ أين يتقاتل سواد الشّعب في طوابير خانقة للحصول على "فرخة" على حدّ قول المصريّين)، فهل أنّ المواطن القطري الذي أَلِفَ وصول سلع غذائية أجود وأنظف من معبر سلوى البرّي سيتأقلم مع بيضٍ وزيتٍ و.. دجاجٍ بنكهةٍ طائفيّة ؟! أم أنّ عَطاياَ "حفيد" التاج العثماني ستمرّ دون مُقابل على المستوى القطري ومستقبل مجلس التعاون الخليجي أيضًا ! ! يا عُقلاء قطر بعيداً عن مفاهيم القُربى، الإقتصاد السياسي يربط أمور الدولة ومصالحها العليا في قَطر بالدائرة الحضارية الخليجية وهذا هو الخَيار العقلاني ولا رشادة للقرار السياسي القَطري إذا لم يُراعِ المُعطى الاقتصادي لقَطر وجِوارها. عَوائد العولمة..الإرهابُ بديلاً للتكامل؟ العولمة عَرَّت أبناء العراق في أبوغريب العام 2003م..، والعولمة هي من جَنَت عقود النفط جرّاء التكريس الطّائفي في كلّ من العراق وسوريّة، والعولمة وآخرون هم من قطفوا ثمار الفوضى و"الخُروج" في كلّ من سوريّة وليبيا ومصر وتونس والبحرين والقطيف العام 2011م، ومَثُلت أمامنا الدولة الفاشلة والدولة المُنهارة و أرجِعت أخرى إلى "ما قبل الدّولة".. وفي حين كانت أوربا العجوز تحتفل بتجربة تكاملية مثمرة كانت الطّائفيّة عندنا تنضج على مِرجل، مغاربيّاً تمّ وأدُ التجربة التكاملية التي خرجت للوجود العام 1989م وكان لتعنُّت أمزجة "الأشقاء" نفس دور "الأشقّاء" اليوم مع تجربة خليجية عُمرها 36 عاماً (أي منذ إنشاء مجلس التعاون العام 1981م)، إننا اليوم وكلّ لحظة تاريخية في مسار أُمّتنا نرْبَأُ بأنفسنا أن نكون عوناً فكريّاً أو أدبيّاً لطرف على آخر ينتميان لنفس الدّائرة الحضاريّة؛ فالكلمة مسؤولية تاريخية وتأسيساً على هذا فإنّ واجباً حضاريّاً وإقليميّاً و وطنيّاً يضع كافّة الأطراف المتنازعة أمام خيارٍ عقلاني واحد وهو مصلحة شعوب المنطقة وحقّها في التنمية الشاملة ورعاية هذه التجربة التكاملية الخليجية على عِلّاتِها وحمايتها ممّا قد يضع الإستقرار السّياسي للمنطقة محلّ مساومة إقليمية (المتربّص الإيراني وَ المُغامر التّركي) أو دوليّة (الحَكَمُ الأميركي)، أو حتّى لاعبٍ ديني أو حزبي (الإخوان المُتجوِّلون)، أو فردٍ قد يكون عَرّاب "ثورات" قد تسْفِكُ أكثر ممّا تحقن (عزمي بشارة / يوسف القرضاوي)، أو فكرة (تشنيع الآخر/ تكفير). ولعلّ الرّاصد لجذور الأزمة الخليجية الحالية، لا مظاهرها يتبدّى له ومن خلال مؤشرات سياسيّة متواترة أنّ الأزمة الحالية تُبطِن أكثر ممّا تُظهِر ذلك أنّها تستعيدُ تراكمات سياسية / تاريخية ( الإستياء القطري من ردّة فعل السعودية والامارات والبحرين العام 1996م غداة انقلاب حمد بن خليفة على أبيه وَ الإستياء القطري من دور الزعامة الذي تضطلع به السّعودية في مجلس التعاون و يُقابله استياء سعودي/خليجي من التقارب القطري مع إيران حيث "تَمَّ بشكل مشترك استثمار حقول النفط والغاز في المياه القريبة من حدود البلدين" ) وكذلك إيواء قطر لدعاة التّهييج و الثورات: (حالة: إخوان مصر) ودعمها المادّي واللُّوجستي لتنظيمات لا تتوانى في انتهاج العنف المسلّح أو حتّى الإرهاب ضدّ نُظمِها السياسية أو جوارها الإقليمي: (حالة: إخوان فجر ليبيا / حالش: الحزب اللبناني الشيعي/ جحش: جيش الحشد الشعبي)، بالإضافة إلى تورّط قطر في أحداث المنامة العام 2011م وَ المُقترحات المُريبة التي تقدّمت بها لحكومة البحرين،..و تنصُّلها من إلتزاماتها القانونية وتعهُّداتها مع دول مجلس التعاون والتي من بينها إتفاق الرّياض والقرارات التكميلية للعام 2014م،.. قد يكون المراقب السياسي والرّاصد الأكاديمي أمام لعبة شبه صفرية لأزمةٍ خليجيّة لم تقذف بعد كلّ ما في رحِمِها إلّا أنّ الموضوعية لا تعني الحياد أو التّملّق السّياسي؛ ذلك أنّ دخول فواعل إقليميّة و دوليّة على خطّ الأزمة قد يُؤجّل الإنفراج أو أنّه قد يُوجّهها إلى مسارات أخرى؛ فاتهام الإدارة الأميركية على لسان ترمب لقطر في 09/06/2017 "بأنّ لديها تاريخاً في دعم الإرهاب وأنّ عليها أن تُنهي دعمها له" يُشكّل مؤشّراً قويّاً لأصحاب قاعدة العُديد بالسّيليّة على غضّهم النّظر عن دعم "الإرهاب" الذي مارسته قطر في السّابق وَ أنّ صمت المصادر الرّسميّة في قطر عن الرّد عن هذا الإتهام المُباشر الذي كذّبته نفس المصادر منذ بداية الأزمة وبأنّها مزاعم وإدّعاءات وأكاذيب لدفع قطر نحو التّنازل عن قرارها الوطني و سيادتها؛ وهو ما حَمَله بيان مجلس الوزراء القطري، ممّا يُشير إلى إعتراف ضمني قطري بالاتهامات التي واجهتها بها الدول المُقاطِعة منذ البداية وأنّ تصريحات الخارجية القطرية و مواصلة التّعنّت في الاستجابة لشروط الدّول المقاطِعة كانت فقط محاولةً لكسبِ الوقت وانتظار دخول وساطة دوليّة أو إقليميّة فاعلة على خط الأزمة تُسهّل على قطر خروجا محترماً من التّعنّت والعناد المُنتهج إزاء الحصار المفروض، كما أنّ تصريحات وزير خارجيتها محمد بن عبد الرحمن آل ثاني من أنّ" بلاده قادرة على الصمود أمام الضغوط والإجراءات التي اتخذتها الدّول المقاطِعة إلى ما لا نهاية" قد تُفهم من جانبِ دبلوماسي يُناور حتّى يستجْلي ردّ فعل الطرف الآخر. الآن وقد ظهر أنّ ما يُدين قطر أكثر ممّا يُسنِدها أضحى أنّ انتهاج سلوك سياسيّ واقعي تجاه الطّرف الآخر هو قرار سياسي عقلاني وأنّ شجاعة أدبيّة ودبلوماسيّة تُحسب للجانب القطري إذا ما هو جلس لحوار في إطار مجلس دول التعاون الخليجي ولِم لا القبول بالتّسوية التي طرحها "الأشقّاء" وهي في كل الأحوال لن تصُبّ خارج مصلحة دول المجلس وشعوبه وأنّ ذلك لا يُنقص من شأن القرار السياسي الوطني القطري مادام الكُل سيضع أرضية مشتركة لتفاهم استراتيجي يقوم على جعل الإستقرار السياسي للمنطقة الخليجية والتنمية الشاملة لشعوبها وما يتبع ذلك من رفضٍ لكل أشكال الإرهاب ومصادره وروافده من ولاءات سياسية أو حتّى دينيّة-حزبيّة شرطاً لقيام تجربة تكامليّة خليجيّة حقيقيّة، ومن جانب آخر فإنّ ضَمانَ أن تأخذ الأزمة الحالية مسار الانفراج هو أن يقتنع الجانب القطري بأنّ محاولة أطراف إقليمية (إيران / تركيا) ملأ الفراغ الحالي أو التغلغل في الدّاخل الخليجي استغلالاً للوضع الأزمي ولو تحت غطاء تعاوني تمويني أو حِمائي هو استعداءٌ لأطراف الأزمة الآخرين ولا يُمكن أن يُفهم إلّا في هذا الإطار خصوصاً مع حساسية الحالة الخليجية-الإيرانية إزاء التّورّط الإيراني في المُعضلة اليمنيّة الحالية و "الصّحوة" المُفاجئة للمُغامِر التُّركي في نفض الغبار عن بروتوكول سابق لتوسيع الإنتشار العسكري التّركي في قطر، طبعاً الدّول تتحايل على بعضها ولذلك فإنّه من الرّشادة السّياسيّة والمصالح العليا وَ المتطابقة أن تلتزم قطر التّعامل الحَذِر مع هذه "الدّواخل" الإقليمية في إنتظار تأمين تسوية أو خروج آمن لإمتداداتها من "الخوارج" وَ أنّ قطر لا ترضى أن تُعيد مأساة "بربشتر" (*) أخرى في خليجٍ هواءُه لا يمكن إلّا أنْ يكون عربيّاً وَ .. ماؤُهُ. (*) بَرْبُشْتَرُ : من مدن الأندلس، تم حصارها 40 يوما، ثم إبادة المسلمين بها من طرف النورمانيين في حملة صليبية سنة 1064م