جبل بوكحيل إن الكفاح المرير الذي خاضه الشعب الجزائري من أجل إسترجاع حريته وكرامته وهويته عبر ملحمة ثورية كان فيها الجميع يد واحدة، إستطاع من خلاله أن يضع حدا لغطرسة محتل ظن أنه بإمكانه أن يُميت الشعب تحت وطأة الظلم، إلا أن إرادة الأحرار كانت من إرادة الله عز وجل التي لا تأبى للحق أن يداس ولا للحرية أن تسلب، فكانت ثورة التحرير المباركة شمس أضاءت ليل الإحتلال الطويل أشعل لهيبها المقدس رجال أحرار تغذوا من جذور هوية تربتهم الطاهرة معنى القيم والتضحية، وقال فيها الشعب قوله الفصل لا للإستعمار والعبودية نعم للإستقلال والحرية، لكن إنتزاع السيادة الوطنية وتحقيق الإستقلال التام لم يأت هبة من أحد بل دفع الشعب ثمنه غاليا مليون ونصف المليون شهيد عبر مسيرة كفاح شاقة طويلة... نحاول في هذه العجالة تقديم عيّنة من كفاح شعبنا ومآثر ثورته الخالدة في إحدى جهات الوطن لأن ثورة التحرير أعظم من أن يكتب أو يؤرخ لها فهي في حد ذاتها تاريخ مجسد في كل شبر من أرض الجزائر وفي كل قرية وكل مدينة وفي كل واد وجبل، شواهدها ومعالمها مازالت ماثلة للعيان ومن بين المواقع التي مازالت شاهدة على كفاح منطقة الجلفة ''جبل بوكحيل الأشم" الذي كان بالنسبة لقيادة الولاية السادسة التاريخية المكان الإستراتيجي المفضل لدعم النضال في الجنوب الصحراوي، ضد جحافل قوى الإستعمار وإبطال إدعاءاته وإفشال مخططاته التي كانت تزعم أن الصحراء لا يمكن أن تصلها الثورة أو يوجد بها نظام ثوري وهو يرمي بذلك إلى فصل الصحراء عن باقي التراب الوطني بإعتبارها جزء لا يتجزأ من فرنسا -كما يدعي-، لكن المناطق الصحراوية قدمت تضحيات جسام من أجل التحرير بالرغم من صعوبة المنطقة الطبيعية والحصار الشديد المضروب عليها. الموقع الجغرافي لجبل بوكحيل يقع جبل بوكحيل جغرافيا ضمن سلسلة الأطلس الصحراوي ويمثل القسم الأكبر من جبال أولاد نايل، يربط اليوم بين ثلاث ولايات (الجلفة، المسيلة، بسكرة)، يبدأ من جبل عريعير ببلدية عين الريش وينتهي بقمة الشنوفة بلدية سلمانة، ويشمل سلسلة من الجبال التي مثلت الحماية الطبيعية للمجاهدين أثناء الثورة التحريرية منها جبال طولقة (العروسين)، جبال القسوم وجبل لكحيلة، ثم تمتد إلى جبل الميمونة والنسنيسة، وجبل قلب العرعار وقرون الكبش، جبل ثامر وجبل لكراع المقابل لجبل مساعد. يعد إمتدادا لسلسلة جبال الأطلس الصحراوي، يحده من الناحية الشمالية جبيل ثامر وجنوبا الصحراء وشرقا عين الريش وفيض البطمة، ومجبارة، ومن الناحية الغربية مسعد. أما من حيث التقسيم النظامي للثورة فالمكان يقع في تراب قسمتي 56-57 الناحية الثانية المنطقة الثالثة من الولاية السادسة التاريخية، وهو في القسم الإداري حاليا يقع في تراب بلديات مسعد، وفيض البطمة، وعين الريش، ويبعد عن بلدة مسعد حوالي 30 إلى 40 كلم، وعن مدينة الجلفة مقر الولاية بحوالي 100 إلى 115 كلم. والموقعان عبارة عن جبال صخرية وترابية جرداء بها شعاب صخرية عميقة تتدفق منها مياه عذبة ويعتبر الموقعان المذكوران من الأماكن الإستراتيجية المحصنة والمفضلة للكفاح ضد الإستعمار، وهي صعبة التسلق من الناحية الجنوبية الغربية وسهلة من الناحية الشمالية، وفي نفس الوقت تتميز بحاجز طبيعي يقي المجاهدين من تقدم الدبابات نحوهم ومواجهتها. رمزية جبل بوكحيل التاريخية هو عبارة عن جبل شامخ الإرتفاع وكبير الحجم تتخلله منحدرات شديدة تصل زاويتها أحيانا إلى 90 درجة كان ملجأ للمجاهدين أيام الثورة التحريرية فهو يحتوي على مغارات وكهوف مذهلة البناء، يبدي للناظر إليه إحساسا بالعظمة. يعرف جبل بوكحيل بحصانته الطبيعية ووعورة تضاريسه التي تحمي كل من إلتجأ إليه، كما يتنوع غطاؤه النباتي من الشجيرات الإستبسية للإكليل والحلفاء، والشيح وغيرها، إلى جانب العديد من المنابع والمجاري المائية وهو بذلك يشكل بيئة طبيعية متوازنة. مع الأهمية الجغرافية، فإن لجبل بوكحيل رمزية تاريخية فقد كان منطقة عسكرية محرمة على المدنيين منذ إندلاع الثورة إلى غاية وقف إطلاق النار، فهو يعتبر أوراس الولاية السادسة والحصن الحصين لكتائب الثورة التحريرية المباركة، شهد خلال حرب التحرير العشرات من المعارك والكمائن والإشتباكات وزُرعت أراضيه بالعبوات الناسفة التي أربكت العدو وجعلته يعد خطواته قبل أي توغل في أراضيه، ويؤرخ بوكحيل لقوافل الشهداء الذين سقوا أراضيه بدمائهم الطاهرة ويأتي على رأسهم زيان عاشور المؤسس الأول لوحدات جيش التحرير بالجهة. تغنى بجبل بوكحيل عديد الشعراء المحليين من بينهم إبن بوكحيل الشاعر لخضر جعيدير الذي وصف الجبل والمعارك التي دارت به يقول: جبل الثورة بوكحيل علينا طل *** من لا يعرف قاهر الظلم نوريه شرقي مسعد قابل الدشرة ظلل *** سبحان اللي رافع أحجاره بانيه معدن للكفاح هذوك أماليه *** قربنا بر المعارك زدنا ليه أجريبيع وقمرة عنهم سوّل *** الصفرا وواد العلق جات أمساميه من مركز الإجتماع على التوميات طل *** يحكولك جيش العدو واش دارو فيه الزعفرانية فيها القيادات أكل *** تتنقل وجبيل ثامر ما تخطيه أمساعد ومحارقة عنهم عوّل *** كاف النسينيسة والميمونة شرقيه أشديدة منها إلى بوزكري قبل *** بودريين أجي الدخان أويه من هذ المعارك جيش العدو راه تبهدل *** وأهزمنا في حربنا ديغول أذل وتبقات أعظامهم تتلاوح فيه...
وصول طلائع جيش التحرير إلى جبل بوكحيل وتكوين الفوج العسكري للصحراء بعد عقد إجتماع بجبل أحمر خدو ببرقوق بمنطقة الأوراس ضمّ عددا من مسؤولي النواحي، تقرر خلاله توسيع رقعة الكفاح الثوري وإرسال الأفواج نحو المناطق الصحراوية وكل هذه الأفواج تخضع لقيادة محمد بن بولعيد ويدعى هذا الفرع ب "الفوج العسكري للصحراء" كان من بينها فوج بقيادة عمر إدريس مبعوثا من طرف عبد السلام الحسين بن عبد الباقي توجه إلى ناحية أولاد جلال وواصل تقدمه إلى الوجه الشرقي من جبل بوكحيل بفوج من المجاهدين وتمّ التنسيق بينهما لتنظيم الجهة عسكريا وسياسيا. وإتفق قادة الأوراس على جعل المكان المسمى (فم الخرزة بناحية الحمراء جبل بوكحيل) موقعا للتدريب تحت إشراف عمر إدريس، وفي شهر أوت 1955 وصل عدد المجندين المتمركزين ببوكحيل 22 مجاهدا، وفي ظرف ستة أشهر يرتفع عدد المجندين إلى 700 مجاهد مسلح ومدرب وجاهز لمقاتلة العدو. ومع بداية شهر ديسمبر من سنة 1955 إنتقلت الأفواج المرافقة لعمر إدريس إلى مناطق نشاطها العسكري وتُعتبر هذه الأفواج من الطلائع الأولى لجيش التحرير التي حلّت بالمنطقة. أساليب جيش التحرير المعتمدة لمواجهة العدو في الجبل (أسلوب حفر الكازمات) فرضت الطبيعة بالولاية السادسة نمطا معينا من القتال مختلفا تماما عن الذي عهدناه بباقي ولايات الوطن حيث إعتمد المجاهدون في معاركهم على أسلوب حرب العصابات التي تتمثل في الهجمات المباغتة والإنسحاب السريع وتجنب الإشتباك المباشر، فالتحرك كان يتم بمجموعات صغيرة والتركيز على نصب الكمائن لقوافل العدو، وتخريب منشآته وقتل مواشيه، وحرق مستودعات الحلفاء والتي عادة ما تكون نتائجها مضمونة، ومثلت حرب العصابات الأسلوب الأمثل في قتال الجيوش الفرنسية النظامية التي دوخها هذا الفن من القتال رغم ضخامة عددها، عدتها وعتادها. وتوصل المجاهدون بالمنطقة أيضا إلى إبتكار طريقة قتالية ذكية تمثلت في حفر الخنادق قرب قمم الجبال الجرداء بعمق 80 أو 50 سم يختبئ فيها المجاهد ثم يغطى فوقها بما تيسر من نباتات وينتظر مرور العدو فإذا ما تأكد أن المنطقة آمنة يقرر الخروج من جحره أو قبره، بهذه الطريقة كبد المجاهدون خسائر عديدة للعدو عن طريق المباغتة ووفروا عن أنفسهم خسائر الإصابات بقذائف الطائرات المدفعية. فجيش التحرير الوطني بالمنطقة عندما يختار موقع التمركز لمدة قصيرة كانت أو طويلة يتخذ الإجراءات والإستعدادات العسكرية الضرورية ويتأهب حسب خطة ثورية محكمة تحسبا لكل طارئ وتكون في الأغلب على النحو التالي: - يعين لكل كتيبة موقع خاص تتمركز به وتحدد لها واجهة معينة تتصدى لها. - يقوم كل مجاهد بحفر أخدود له يستعمله كحصن يكافح منه العدو ويجب أن يتم هذا العمل أثناء الليل أي بمجرد وصول المجاهدين إلى المكان المقرر للتمركز. والأخدود (كازمة) يُعين موقع حفرها المسؤول الحربي للكتيبة بحيث تحتل مكانا إستراتيجيا مناسبا يُمكن المجاهد من تسديد ضرباته إلى العدو، دون أن ينال العدو منه شيئا ويمنع تسرب جنود العدو نحو إخوانه المجاهدين أو النيل منهم وهم بدورهم يقومون بنفس الدور في أرض المعركة. فالأخاديد تقام على شكل شبكة منسجمة عبر موقع التمركز في قمة الجبل وعلى جوانبه، وفي سفحه بحيث يكون الموقع محكم الربط من كل الجوانب والجهات إذ أن أي خلل أو خطأ في تحديد الموقع يمكن أن يستفيد منه العدو أثناء المعركة ويكون ذا تأثير سيء على المواقع الأخرى، والأخدود يتسع للفرد جالسا أو قائما بحيث يسهل له التحرك صوب كل الجهات، ويغطى الأخدود بحجارة مسطحة من نوع أحجار الموقع، أو بأغصان أشجاره مما يصعب على العدو إكتشافه، كما يقي المجاهد من إصابات قنابل النابالم ونيران الحرائق التي تسببها قنابل وقذائف الطائرات التي تلقيها على أرض المعركة بكثافة كبيرة. والمجاهد مجبر على البقاء في الأخدود طوال اليوم وخروجه مهما كان الأمر يعتبر خطأ بالنسبة لأساليب الحرب وقواعدها وخاصة في مثل هذه النواحي ذات الطبيعة الصعبة والجرداء من الأشجار ولو أدى ذلك إلى إحتراق المجاهد أو أن يسقط جثة هامدة لأن خروجه يعني إكتشاف الخطة من طرف العدو، وتسديد الضربات صوب العدو لا يكون عادة إلا بعد صدور الأمر من المسؤول الحربي للكتيبة أو عندما يتأكد المجاهد من إصابة عدوه حين يكون بالقرب منه. وقد كان تمركز الجيش في الجبل يخضع لعدة عوامل وإعتبارات منها: - عدد أفراد الجيش من حيث الكثرة والقلة. - نوعية الأسلحة المتوفرة. * مدى صلاحية الموقع من الناحية الإستراتيجية لخوض المعركة، ويخصص للرشاشات الثقيلة مواقع إستراتيجية خاصة يمكنها أن تلعب دورها الدفاعي الهام عن الجيش ضد قصف الطائرات وتقدم الدبابات...أما الرشاشات فهي بدورها في حاجة إلى حماية من نوع خاص. جبل بوكحيل/ سبتمبر 1961 إن المجاهدين قبل الإلتحاق بمواقعهم ملزمون بالتزود بالتموين من غذاء وماء وذخيرة لمواجهة العدو، وعليهم أن يسهرو قبل ذلك على ترتيب الأمور في المركز بحيث يقومون بإخفاء كل أثر من شأنه أن يوفر للعدو معلومات أو إشارات تساعده على إكتشاف المركز بواسطة طائراته التي تظل تجوب المناطق. وعند الإنتهاء من بناء الأخاديد يمر المسؤول العسكري للتأكد من مدى صلاحيتها ويتفقد الأسلحة والذخيرة وحالة الإستعداد والتأهب. وقد لقي هذا الأسلوب نجاحا كبيرا في جبال الولاية السادسة، وحسب شهود عيان مازالوا على قيد الحياة فإن العديد من المقابر الجماعية لم يتم إكتشافها بعد، خاصة بالمناطق الجبلية التي كانت مهد الثورة وعرينها، والتي أصبحت فيما بعد مناطق محرمة بعد تهجير السكان منها، مثل ما حدث بقرية القرموز بعمورة بلدية مسعد. أهم المعارك التي عرفها جبل بوكحيل (1956- 1961) إن الإلمام بكافة الأحداث التي عرفها جبل بوكحيل إبان الثورة ليس بالأمر السهل ولكننا حاولنا أن نسلط الضوء على بعض أحداث المعارك الضارية التي جرت وقائعها في هذا الجبل. 05 و 06 ماي 1956: معركة قزران بجبل بوكحيل بقيادة لخضر الرويني ومحمد بن الهادي، دامت المعركة يومين كاملين وغطت سفحي الجبل الجنوبي والشمالي، شارك العدو فيها بقوات ضخمة بحوالي ألفي عسكري أغلبهم من اللفيف الأجنبي والمعروفين بالجهة بالسنغال (المجندين الأفارقة) مقابل حوالي خمسين مجاهدا صمدوا كالصخر في وجه العدو الذي خسر الكثير من قواته برصاص المجاهدين، وضل يجلي جرحاه وجثث قتلاه بالشاحنات الملطخة بالدماء إلى قرية عمورة القريبة -حسب شهادة أهالي القرية-، كما خسر إحدى طائراته التي سقطت برصاص المجاهدين، في حين نال شرف الشهادة 07 مجاهدين. وتعد معركة قزران المعركة التي أعطت دفعا قويا بالمنطقة لما حققته من إنتصار باهر على القوات الإستعمارية كسر حاجز الخوف من الفرنسيين وزاد درجة الحماس لمزيد من الإنتصارات. 02 جويلية 1957: معركة دلاج بجبل تفارة الواقع ضمن سلسلة جبل بوكحيل والموقع هضبة جرداء، وتقع منطقة دلاج بين قمتي جبلين متوسطي الإرتفاع إلى الشمال ب 15 كلم من بلدية عين الإبل ولاية الجلفة. تعد من أشرس المعارك التي عرفتها المنطقة، إستمرت من الساعة 10 صباحا إلى ال 4 مساءا، استعملت فيها أسراب من الطائرات المقاتلة والقنابل المحرمة دوليا مع إنزال مكثف لمئات المظليين في موقع المعركة، وإستبسل المجاهدون بقيادة زيان البوهالي رغم نقص الذخيرة لكنهم كبدوا الجيش الفرنسي خسائر فادحة في الأرواح وفي المقابل إستشهد فيها 72 مجاهد من خيرة أبناء المنطقة يتقدمهم القائد زيان البوهالي ونائبيه مجدل وبلحاج مسؤولي الفرق، وأسر 15 مجاهد بعد نفاذ ذخيرتهم وكان أغلبهم جرحى، ولم ينج من المعركة سوى تسعة 09 مجاهدين تمكنوا من الإنسحاب بأعجوبة عند حلول الظلام. 10 أوت 1959: معركة منطقة مراح العجرم ببوكحيل بقيادة الملازم مخلوف بن قسيم، وجهت فيها ضربة قاسية لأتباع بلونيس وكانت سببا في تشتت صفوف العدو في جبل بوكحيل، حيث أنه مني فيها بخسائر جسيمة جعلت جنوده يتوزعون فرقا صغيرة بعد أن شكلوا جيشا في نواحي بوكحيل، وإستشهد فيها الملازم الأول العسكري زيدان. طائرة اسقطها المجاهدون في جبل بوكحيل، و يبدو "مخلوف بن قسيم" وسط الثلاثة فوق جناح الطائرة 03 أكتوبر 1960: معركة العلق بمسعد قرب قمرة جبل بوكحيل، دامت يوما كاملا من شروق الشمس حتى العاشرة ليلا خاضتها وحدات من جيش التحرير الوطني من الناحية الثانية المنطقة الثالثة بقيادة مسؤول الناحية الضابط مخلوف بن قسيم، وقادة الوحدات عبد الجبار بن المداني، فرحات حسوني، ولبصير محمد بن العمري، والعريف الأول محمد سهلة مزودين بأسلحة من نوع 30 ألمان، و24 فرنسية، ومدفع رشاش جماعي من نوع فامبار، وبنادق رشاشة بران أنجليزية، وأسلحة أوتوماتيكية خفيفة، ضد العدو الفرنسي الذي رمى فيها حشود كبيرة من قواته البرية مدعمة بالطيران والدبابات والمدفعية بعيدة المدى، وعساكره تعززها قوات من الحلف الأطلسي، وقد جاءت هذه المعركة إثر حملة تمشيط ومسح للجهة كان يقوم بها العدو وينوي من خلالها إلقاء القبض على المجاهدين، غير أن الأمر لم يكن كما خطط له العدو ووجد نفسه أمام أسود بواسل من جيش التحرير متحصنين في مواقعهم وفرضوا على العدو معركة شرسة فتح المجال فيها لتدخل الطيران المقاتل والمقنبل المستعمل للنابالم، والطيران الناقل للجند، والهليوكوبتر حيث أمطر العدو ميدان المعركة بأطنان القنابل والقصف الكثيف والمركّز لمدفعية الميدان للدفاع عن مشاته الذين أصيبوا بالذعر وأخذوا يتراجعون إلى الوراء في حالة فرار. إستمر القتال ضاريا حتى العاشرة ليلا مخلفا خسائر بشرية جسيمة في صفوف العدو بين قتيل وجريح، وتعطيل عدد من الآليات والشاحنات مع إسقاط طائرتين، وتمكن المجاهدون من فك الحصار عن ميدان المعركة بعدما سقط منهم في ميدان الشرف 16 مجاهدا. 17 و18 سبتمبر 1961: معركة الكرمة والجريبيع بقيادة العقيد محمد شعباني قائد الولاية السادسة نشبت أولا بالمكان المسمى "الكرمة" بجبل بوكحيل، تميزت هذه المعركة بضراوتها وتجنيد قوات فرنسية ضخمة أتت من كل النواحي القريبة والبعيدة مدعمة بمختلف الأسلحة الفتاكة، بالدبابات وأسراب من الطائرات المقاتلة التي بلغ عددها نحو أربعين طائرة من نوع ب 26 و ب 29 و ث 6، والتي إنطلقت من عدة قواعد، وكذا الطائرات العمودية، وبعد القصف الشديد والمركّز بدأت القوات البرية في التقدم نحو مواقع المجاهدين وكان ذلك في حدود الساعة السادسة صباحا، وشهد القتال الدائر رحاه بالمنطقة فصولا أخرى من القتال الرهيب والدامي بين الطرفين، ولما تأكد العدو من إستحالة تحقيق نصره العسكري في الميدان دخل في المعركة بطائراته المقاتلة لتلقي هي الأخرى بأطنان من القنابل المدمرة والمحرقة وقنابل النابالم غيرها. ومع هذا الحشد مُنيت القوات الإستعمارية بأفدح الخسائر حيث فقدت يومها حوالي 200 قتيل وعدد كبير جدا من الجرحى، وإسقاط ثلاث طائرات من نوع ث6، وإثنين من نوع ب 29، وإصابة ما بين 3 إلى 4 طائرات أخرى بقاياها لازالت لحد الآن بمكان المعركة، بينما استشهد مجاهدين إثنين، وجرح ثلاثة آخرين بجروح بليغة. وفي 18 سبتمبر 1961 إنتقلت المعركة إلى موقع "الجريبيع"، إذ تتبع العدو المجاهدين الذين خرجوا من حصار معركة (الكرمة) بأعجوبة شديدة، فعزز قواته وضاعف عدده وعدته، واعتمد الأسلحة المحرمة دوليا (النابالم والغازات السامة).ونظرا للدروس القاسية التي تلقاها المجاهدون في اليوم الأول من القتال في موقع الكرمة فقد ركز هجومه هذه المرة على الطائرات المقاتلة ومدفعية الميدان الثقيلة والمدرعات التي قدر عددها ب 250 مدرعة عدا السيارات المصفحة، وعند حدود الساعة التاسعة صباحا أستأنف القتال مع القوات البرية التي أرغمت على التقدم وحدث القتال بين الطرفين، قاتل خلالها المجاهدون قتال الأبطال مظهرين صورا خارقة من الشجاعة والإقدام، وإستمر الوضع على ماهو عليه من كر وفر إلى غاية الغروب وحلول الليل سقط للعدو في هذا اليوم ما يربو عن 220 عسكريا وعدد كبير يفوقه من الجرحى، ومن جهة المجاهدين سقط 09 شهداء. لفد كانت المنطقة الثانية من الولاية السادسة التاريخية مواكبة للحدث ورجالها على قدر كبير من المسؤولية فقد حرصت على توحيد القيادات وكثفت الأنشطة والمشاريع معتمدة على السرية في كل تحركاتها متحدية كل الصعاب والمشاكل لتحقيق هدفها وصمدت في وجه الطبيعة القاسية وتباعد المسافات بين مراكزها من جهة وصمدت ضد الخيانة البلونيسية والمحتل الفرنسي من جهة أخرى وأحبطت جميع خطط العدو تحت شعار لا شمال بدون جنوب ولا جنوب بدون شمال كلها أرض جزائرية.