طبعا قبل تناول أي وسيلة إعلامية بالنقد أو المدح لابد من بعض الإلمام بالمنتوج الإعلامي الذي تقدمه تلك الهيأة الإعلامية حتى لا يستحيل المدح قدحا، و يصبح النقد أداة للهدم و ليس أداة لبناء النقاش الهادف و تبيان جوانب النقص و التقصير حتى يتم تداركها من أجل فائدة الجميع. و هنا نفتح قوسا لنقول أن الحق في نقد منتوج إعلامي سمعي أو بصري أو مقروء لا يتطلب بالضرورة أن يكون الناقد ملما بكل ما يسمعه أو يقرؤه أو يشاهده ... بل و لا يتطلب الأمر مستوى ثقافيا معينا و لا مستوى أكاديميا محددا، إلا إذا كانت تلك الوسيلة الإعلامية تعتقد أنها نخبوية وخطابها محصور في فئة المثقفين وحدهم أو ذوي الشهادات و الألقاب الأكاديمية دون غيرهم!! و لكي لا نجانب لب الموضوع ألا و هو الإذاعات ، فإننا نقول أن الإذاعة مثلها مثل جميع الوسائل الإعلامية الأخرى يقع على عاتق طاقمها عبء النشأة الأولى لا سيما إذا كانت الإذاعة تختص بنطاق جغرافي معين ... و بالتالي فانه يجوز لنا أن نسقط على الإذاعة ذلك التعريف عن الصحافة و هي "دعوة إلى الجمهور من أجل المشاركة في التسيير" ، و نضيف هنا عبارة "التسيير المحلي" لأننا بصدد التحدث عن الإذاعات المحلية كما أسلفنا. و كما قلنا سابقا بأن النشأة الأولى للإذاعة تقع على طاقمها فانه بالمقابل يقع على المستمع حق و واجب النشأة الأخرى ... فكيف يكون ذلك؟ إن المستمعين (الأوفياء منهم و غير الأوفياء، الطرقيون "السائقون" و البدويون) هم من يعنيهم أن تعالج الإذاعة شؤونهم المحلية بطرحها على المسيرين أو التحقيق فيها و استشارة الخبراء و المحللين و الفاعلين و أصحاب السلطة و القرار و مختلف أطياف المجتمع المدني ... و بما أن هذه البرامج تستهدف المستمع و الرأي العام المحلي فان هذا الأخير هو من يملك الحق في النقد و الاقتراح حتى تسمو بانشغالاته و توصل صوته إلى المسؤولين المعنيين مباشرة على أمواج الأثير. و لا ريب أن كل هذا الزخم من المشاعر و الوفاء لبرامج الإذاعة يجعلها أمام واجب عظيم تجاه المستمع الكريم و أمام مسؤولية كبيرة في حمل انشغالاته و طرحها بكل موضوعية على المسؤولين و بكل حيادية و دون تغليب لكفة هذا على ذاك ، و مرة أخرى تجد الإذاعة نفسها مجبرة على إرضاء كل الأذواق و تلبية طلبات كل أنواع الجماهير و هذا بغض النظر عن كون المستمع وفيا لبرامج الإذاعة أم لا أو كونه يستمع إليها في الطريق من باب التسلية. دعونا نوجز الحديث عما ينتظره المستمع من إذاعته في القول بأن الإذاعة مطالبة باستنفار مهنيتها إلى الحدود القصوى (أي منذ بداية البث إلى غاية توقفه) حتى إذا ما فتح المستمع الراديو متى شاء ، وجد في البرنامج الذي يصادفه السلوى و التنفيس و الفائدة العلمية و الثقافية و مشاركة الهم و طرحه على من بيدهم تفريج ذلك. إن المفاهيم الحديثة للرسالة الإعلامية قد سمت عن ذلك المفهوم التقليدي للعلاقة بين المستمع و إذاعته و تجاوزت بكثير ذلك النمط الكلاسيكي حول الحدود المرسومة للمستمع في تدخله عبر الأثير في شتى برامج الإذاعة. و حيث أن العصر الحديث ينتقل بنا بسرعة إلى عصر الإعلام الآني و إعلام اللحظة و صحافة المواطن، فان التحدي صار يطرح بإلحاح أمام وسائل الإعلام التقليدية في مواجهة الإعلام الإلكتروني الذي أدهشنا بالفعل ... ليس لأنه احتكر مساحات واسعة في الواجهة الإعلامية فحسب بل لأنه قد صار يهدد وجود الإعلام التقليدي برمته و ترممه (الإشهار) و بقاءه و ديمومته. فعلا إن المستمع اليوم مثله مثل المشاهد لم يعد في حاجة إلى وسائل الإعلام التقليدية إلا في نطاق محدود بفضل الأنترنت و كنتيجة لذلك نجد هذه الوسائل التقليدية تبحث لنفسها عن مواقع و مساحات في الأنترنت من خلال محاولتها التكيف مع الواقع الافتراضي الجديد و محاولة فرض نفسها و فرض احترام المستمعين و الفوز بوفائهم. من أجل ذلك نجد أن بعض الإذاعات المحلية الحديثة النشأة في الجزائر قد استوعبت هذه الفكرة جيدا و فهمت حجم التحدي المطروح فسارعت إلى إنشاء مواقع لها على الأنترنت يستطيع من خلالها المستمع أن يطلع على شبكتها البرامجية فيبرمج توقيته للاستماع إلى ما يريده منها بل و يشارك في اقتراح أسئلتها حتى تكون ذات مردودية أكثر و حتى لا تذهب فرصة استضافة مسؤول ما هباءا منثورا دون أن يجلي الغموض في قضية تهم المواطن. إن الزبائنية الإذاعية هي أسوء ما يمكن أن يبتلى به جمهور المستمعين من إذاعته المحلية التي قد يستعملها بعض المسؤولين المحليين بدورهم من أجل تبييض صورتهم أمام الرأي العام المحلي، فليس من اللائق مثلا أن نستمع إلى جينيريك حصة إذاعية قد بدأت للتو و نحن لا نعرف مسبقا الموضوع الذي ستطرحه و نوعية الضيوف الذين سيتم استضافتهم و بالتالي فان الكثير من المستمعين قد تفوتهم فرصة طرح انشغالات و مشاكل علاجها بيد ضيوف الإذاعة، و المشكلة هنا هي أن المستمع ليس بين يديه وسيلة يستطيع بواسطتها أن يعرف برنامج الحصص و توقيتها و مواضيعها و الضيوف المدعوون. الأكيد أن الإذاعات التي تمارس هكذا زبائنية إذاعية مدعوة إلى تجاوز عقلية " هذا القماش ادي و لا خلي" و محاولة اللحاق بركب نظيراتها في التكيف مع تكنولوجيا الأنترنت و لنأخذ إذاعة مستغانم كمثال بسيط عن تلك الإذاعات التي تكيفت مع العصر و مع متطلبات المواطن الرقمي ... فموقع إذاعة مستغانم على الأنترنت تستطيع أن تجد فيه الشبكة البرامجية للإذاعة و مختلف المواعيد التي ستنظم بالولاية و المكتبة الإذاعية و باقة متنوعة من الأخبار الوطنية و المحلية (اقتصادية، رياضية، صحة و مجتمع، فن و ثقافة) فضلا عن مختلف التسجيلات الصوتية للمسؤولين و أحوال الطقس على المستوى المحلي و حتى ركن "عالم رقمي" الذي يهتم بجديد التكنولوجيا و ركن أخبار طريفة. كذلك يمكن لنا أن نجد في موسوعة ويكيبيديا نبذة عن إذاعة واد سوف الجهوية، في حين تسمح لنا إطلالة على موقعها على الأنترنت بأخذ فكرة جيدة عن الشبكة البرامجية التي تبثها عبر الأثير و كذلك برنامج الموقع "لقاء النت" فضلا عن الإلمام بأخبار واد سوف من خلال إذاعتها و هو ما يجعلنا نستنتج أن ما يحرره صحفيوها لا يرمى بعد قراءته على أسماع "من يسمعون و لا يجلسون للقراءة" و إنما يجد له طريقا آخر عبر موقعها إلى من " يجدون الوقت للقراءة و لا يجدونه للاستماع "، و بالتالي الوصول إلى جمهور آخر كان حكرا على الصحافة المكتوبة ألا و هو جمهور القراء بل و مدهم حتى بالتسجيلات الصوتية و إعطاؤهم فرصة التعليق على المواضيع. شيء آخر يجذبك إلى موقع إذاعة واد سوف و هو أنه منبر لسبر الآراء حيث نجد فيه مثلا سبر آراء حول "تقييم أداء الأحزاب السياسية في مختلف المجالس المنتخبة في واد سوف" و هو سبر آراء يشبه إلى حد كبير سبر الآراء الذي قام به موقع "الجلفة إنفو" حول نفس الغرض. هذه أمثلة بسيطة عن إذاعات محلية اجتهدت في التواصل مع مختلف أنواع المتلقين و السعي إلى وضع المعلومة الصحفية بين أيديهم لزيادة الوعي لدى المواطن بحجم التحديات المطروحة على المستوى المحلي. أما غير ذلك فان باقي الإذاعات مدعوة لأن تحترم المستمع و تعطيه الفرصة لكي يفتح المذياع على الساعة التي يحبذ فيها سماع البرنامج الذي يريد ... و ليس بإجباره على الاستماع إلى "الكل من اجل الجزء" و إلا فانه يصدق القول عن هذه الإذاعات أنها لم تتجاوز بعد "مرحلة الدهشة" و إن كان عمرها الإعلامي يعد بالسنوات !!