استطاع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بقرار منسوخ على صفحة ونصف، أن يفجّر غضب العالم العربي والإسلامي ويجمع شمل كل متناقضاته تحت راية الدفاع عن هوية القدس الشريف والتضامن مع فلسطين، وأن يفتح الباب أمام خروج الولاياتالمتحدة من دور الوسيط الدولي القوية لتركن إلى زاوية الاحتلال الصهيوني، فما الذي دفع ترامب لاتّخاذ خطوة بهذه الخطورة؟ كانت بداية ديسمبر حافلة بالنّجاحات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقد استطاع أخيرا تمرير مشروع إلغاء قانون الضمان الصحي المعروف باسم «أوباماكير» على مستوى مجلس الشيوخ، وتبنّت المحكمة العليا الأمريكية النص النهائي لقرار حظر السفر على مواطني ست دول ذات الأغلبية المسلمة إلى الولاياتالمتحدة. ليسجّل الرئيس ال 45 لأمريكا، عودة قوية إلى حلبة الصّراع مع خصومه في الداخل بعدما تلقّى ضربات عديدة في بداية عهدته جعلته محل سخرية وازدراء في نظر الجميع. لقد باشر ترامب مهمته الرئاسية تحت أعين أجهزة الاستخبارات الداخلية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وأمام سوط الانتقادات الإعلامية اللاّذعة من كبريات الصحف والقنوات، ليس فقط لأنه ينتمي إلى التيار اليميني المتطرّف، ولا لشبهة تدخّل روسيا في الانتخابات وإنما لما يمثله من خطر داهم على القيم الأمريكية على صعيدي السياسة الدولية والثّقافة المجتمعية الداخلية. وبدا ترامب، إلى غاية مطلع الشهر الجاري، بارعا فقط في إطلاق أوصاف السّخرية والانتقاد على موقعه الرسمي «تويتر»، وجلب المليارات من صفقات التسلح في الشرق الأوسط، في مقابل عجز بالغ في تنفيذ ما وعد به كمرشّح. وأمر ترامب بشنّ هجوم جوي على الجيش السّوري، في مطار الشعيرات بسوريا شهر أفريل الماضي، في خطوة مناقضة لما صرّح به من قبل بشأن «ضرورة إشراك النظام السوري في عملية الحل، وتركيز الجهود على الحرب على تنظيم داعش الإرهابي وفقط». كما تخلّص من مستشاريه بالبيت الأبيض، ممّن أسندوه بقوة خلال الحملة الانتخابية، الواحد تلو الآخر، وبالأخص كبير المستشارين ستيف بانون المعروف بفكره المتطرّف. يومها، بدا ترامب في موقف ضعف أمام قوى المؤسّسات المؤثّرة في السياسية الأمريكية (الاستابليشمينت)، وسعى جاهدا لاسترضائها بإدخال ملايير الدولارات عبر إبرام صفقات اقتصادية تاريخية خاصة في منطقة الشّرق الأوسط. النّهوض والصّفقة وعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل سريع إلى ممارسة هوايته المفضّلة والمتمثّلة في «اتّخاذ القرارات الجريئة والمفاجئة مع الاستعداد جيدا لأسوأ التداعيات»، والإيمان بهذه التوليفة وتطبيقها بشكل محكم هي التي جعلت منه رجل أعمال ناجح، وأخرجته من أحلك الأزمات المالية التي مرّ بها. البداية، كانت بإقالة رئيس مكتب ال «أف بي أي»، جيمس كومي، الذي رفض الكف عن ملاحقته ومقرّبيه بشإن الاتصالات مع روسيا خلال الحملة الانتخابية، واعتبر القرار أنّه دليل على «إخفاء الرّئيس لشيء ما»، دون أن تصل أجهزة الأمن إلى شيء ملموس يدينه. وتفرّغ الرّئيس الأمريكي بعدها ليعمل بهدوء طيلة الصّائفة، على ما أسماه «صفقة القرن»، والمتضمّنة خطّته للسّلام في الشّرق الأوسط، وبالضبط «لدفع العملية السّلمية بين فلسطين والكيان الصّهيوني»، مكلّفا صهره غاريد كوشنر بالملف. في الوقت ذاته، ازدادت رقعة الصّراع داخل الدول العربية، وظهرت متغيرات غير مسبوقة في منطقة الخليج العربي، حيث تصدّع مجلس التعاون الذي كان يبدو أنجع اتحاد إقليمي في المنطقة العربية، وتعمّقت الجراح في اليمن، وتحوّلت زاوية الخطر والتهديد من التنظيمات الإرهابية وإسرائيل إلى إيران، وارتبطت صفقة ترامب للسلام بتقدم اتصالات غير مسبوقة بين بلدان عربية والعدو الصهيوني. اللّوبيات الضّاغطة عمل ترامب على خطّة حل النّزاع بين فلسطين والمحتل الإسرائيلي، جرى من خلال 3 مسؤولين معروفين بانتمائهم إلى لوبيات قوية تعمل لخدمة المصالح الإسرائيلية داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية وخارجها. بينما اقتصر دور إطارات كتابة الدولة للشؤون الخارجية وأجهزة الاستخبارات على تقديم «تقييمات مخاطر للقرارات المحتمل اتخاذها»، ولم يشرك وزير الخارجية ريكس تليرسون في الملف الشّائك، وأبقاه في يد صهره كوشنر (اليهودي). لقد جعل ترامب من مسار خطّته يميل كليا لصالح إسرائيل، خاصة مع الضغط الكبير الذي مارسه عليه المليادير اليهودي الأمريكي شيلدون أدليسون، الذي موّل حملته الانتخابية بملايين الدولارات، وسفير واشنطن لدى تل أبيب ديفيد فريدمان أكبر المتحمّسين لنقل السّفارة إلى القدس، وكذا مستشاره الخاص كوشنر. تنفيذ الوعود والنّتائج العكسية أبقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على هدوئه، وعدل عن اتخاذ القرارات غير المتوقّعة إلى غاية مطلع ديسمبر الجاري، وبالضّبط بعدما توالت انتصاراته داخل الكونغرس الأمريكي وعلى مستوى القضاء، كيف لا، وقد استطاع تحقيق وعدين رئيسيين في حملته وهما «إلغاء قانون أوباماكير» و»حظر السفر على مواطني دول إسلامية»، بعد أشهر من الشد والجذب. وفاجأ العالم في السادس من ديسمبر الجاري، بإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، مكلفا الخارجية بالبحث عن مقر للسفر في القدس بدل تل أبيب، ومجسّدا بذلك ثالث وعد انتخابي. وكشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، أنّ إمبراطور الكازينوهات المليادير شيلدون أدليسون، هو من كان وراء دفع ترامب لإصدار القرار، مهدّدا إياه خلال وجبة عشاء بعدم دعمه لولاية ثانية في انتخابات 2020. ترامب عزا القرار إلى «الاعتراف بالواقع»، وهي نفس العبارة التي برّر بها نتانياهو خلال جولته الأوروبية، الخطوة الأمريكية، معتبرا أنّها قاعدة متينة في دفع عملية السّلام. لكن ومنذ السّاعات الأولى التي تلت خطاب ترامب، بدا أنّ تيارا داخل الإدارة الأمريكية لا يشاطره في الخطوة التي قفز بها إلى حقل ألغام مجهول المعالم، فقد سعى وزير الخارجية ريكس تيليرسون إلى تخفيف الأعباء المترتّبة عنه بالحديث عن طول المدة الزمنية لتنفيذه القرار، ونقل مقر السفارة في ظرف زمني أقله سنتان، وأنّه لم يتضمّن تغييرا لوضعية المعالم الدينية للمدينة. لقد ألحق ترامب أضرارا جسيمة بسمعة الدبلوماسية الأمريكية، التي طالما احتفظت لنفسها بدور «إدارة الأزمات والملفات الكبرى»، مستخدمة ورقة القانون الدولي والمبادئ الأممية كسلاح لمعاقبة الكثير من الدول التي تصفها ب «المارقة». وتحوّلت أمريكا اليوم، إلى حليف متخندق مع كيان محتل، مثلما فعلت دول صغيرة لا أثر لها في السياسة الدولية، وباتت ذلك العضو داخل مجلس الأمن الذي اخترق نظامه من الداخل بعدما داس على قرارات الشرعية الدولية. لقد وقّع ترامب شهادة يأس الدول العربية والإسلامية من أي دور محتمل لبلاده كوسيط في النزاع التاريخي، ويكفي أنّ نائبه مايك بنس عومل بذات الطريقة التي يعامل بها نتنياهو، ورفضت مؤسّسات دينية مؤثّرة في مصر استقباله، كما لن يستقبله الرئيس عباس خلال الأيام القليلة المقبلة. ترامب ومن يقفون وراء القرار، كانوا يظنّون أنّ ردود الفعل ستقتصر على انفجار مشاعر الغضب في العالم العربي والإسلامي لأيام معدودة، لكن تغييرات واضحة ستطرأ على قواعد اللّعبة في إدارة الملف الفلسطيني الاسرائيلي الشّائك، خاصة وأنّ رصيد التنازلات الفلسطينية والعربية انتهى، وبات ضروريا إدخال بنود غير مسبوقة في التعاطي مع القضية المركزية.