مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر الخالدة، هي محطة من المحطات الحاسمة في تاريخ الجزائر المكافحة، وهي فصل من فصول المجابهة والتحدي بين شعب مؤمن بقضيته ومصمم على انتزاع حريته بوساطة الإستشهاد ومواصلة الكفاح بشتى الوسائل، وبين استيطان استدماري غاصب ومتغطرس، ليس له من وسيلة سوى القهر والقمع والتنكيل وإراقة الدماء، ولا يعنيه بعد ذلك إلا الإحتفاظ بالأرض وفرض هيمنته الطاغية وتأكيد إرادته القائمة على المحو والإجتثاث والإبادة الشاملة لشعب بأكمله ، تلك هي حقيقة حسابات أُمِّ الإستدمار فرنسا العجوز التي بدأت معالم مظالمها تزول وتندثر تِباعًا وتتلاشى من أمام عينيك، كما تختفي مظاهر السراب الخادعة كلما اقتربت منها. وقد تزامنت بدايات أفول سطوتها واستكبارها عقب هزيمتها الفضيحة في الميدان العسكري أمام رجالات الجنرال جياب في (ديان بيان فو )، حيث كان الدرس الذي أسقط جبروت الإستكبار الذي كان يظن أنه لن يسقط! وكان طعم مرارة الهزيمة ولا يزال وسيبقى على مدى الدهر تتجرعه ولا تكاد تسيغه امبراطورية الشر والإحتلال، وصاحبة مشاريع الكولونيالية الحديثة ورائدة الإحتلال القائم على البطش وسفك الدماء، على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين.وعلى ذكر (ديان بيان فو) فقد عرفت أُمُّ الإستدمار طعم الهزائم العسكرية قبل (ديان بيان فو)، أثناء اجتياح الألمان لباريس في الحرب الكونية الثانية، وذاقت من نفس الكأس التي طالما أرغمت غيرها على أن يتقبلها صاغرًا في الظرف الأليم الذي يفرضه الإنكسار والإستسلام. وعلى الرغم من تلك التجارب والتقلبات، فقد صَمَّمَتْ فرنسا الإستدمارية على مواصلة سيرتها الأولى، وتَخَفَّفَتْ من بعض مستعمراتها لتتفرغ للقضاء على ثورة الجزائر المجاهدة، والإستقواء على شعبها الذي لَمْ يستسلم لكيدها ولَمْ يذعن لبطشها وجبروتها، وقد خبر أساليبها وعَرِكَ خداعها ومؤامراتها ومَرَدَ على طرائق سياساتها التي لن تتغير ولن تتبدل. وأمام حتمية هذا الواقع الإستيطاني كانت الثورة الجزائرية تشق طريقها بثبات وتحقق انتصاراتها الظافرة في الميادين العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وراح قادة الإرهاب الفرنسي وعتاة السياسة الإستدمارية يراهنون على الإحتفاظ ب «الجزائر الفرنسية» حسب مزاعمهم وطموحاتهم التي ترسمها تطلعاتهم الزائفة، وتمليها أجندة الفكر الكولونيالي الذي وضع أسس أطروحاته على الإغتصاب، ومَكَّنَ لمشاريعه الإستيطانية بالعنف والإرهاب. واستطاعت القضية الجزائرية بعزيمة مجاهديها البواسل وإرادة قادتها الذين صمموا على فَكِّ الإنتصار أن تضع الزيف الإستدماري على المحك. وأن تفرض مشروعها التحرري بوساطة المجابهة المسلحة التي أصبحت هي الوسيلة المجدية والسبيل الموصلة للإنتصار والإستقلال، ومن ذلك المنطلق كان الميدان هو محل الرهان، وكان على كل طرف أن يثبت تحديه بالطريقة المناسبة التي يراها تخدم الغاية التي يتغياها. وكان رأس مال الثورة الجزائرية هو الإرادة والتصميم والعزيمة الصادقة على تحقيق النصر ودحر المستدمرين، وكانت إرادة الشعب من إرادة جيش التحرير الذي تولى حمل المشعل، ولم يطأطئ رأسه للعاصفة، وراح يدير المعارك الفاصلة ويدك حصون الإستدمار بضربات نوعية تمسه في الأرواح والعتاد وبناه التحتية، ومنشآته الصناعية وقواعده العسكرية التي لَمْ تغن عنه شيئا في عمليات الكر والفر أمام كتائب جيش التحرير التي عرفت كيف تتحكم في سير المعارك على الرغم من الفوارق الشاسعة في موازين القوة والإمكانيات المتوفرة لدى كل جانب. وفي غمرة ذلك التدافع بين الحق والباطل سقطت الجمهورية الرابعة، وكان لتسارع الأحداث على وقع تصاعد موجة البطولة والمفاداة التي تسجلها الثورة الجزائرية بشكل يومي الأثر البالغ في ذلك السقوط الذي يدل على خلاصة الفشل الذريع لتوجهات السياسة الفرنسية المتبعة في الجزائر، بما فيها من عنف وتفاقم للمظالم المتواصلة التي يمارسها عتاة المستدمرين ضد الجزائريين العزل، وازدادت حدة تلك الممارسات عقب اندلاع الثورة. وكثرت الإغتيالات من طرف المستوطنين، وأصبح للباطل دولة أخرى هي دولة اوروبيي الجزائر بالموازاة مع دولة الإحتلال القائمة على الأرض. وصاحب ذلك الواقع المزري تحولات جديدة، ارتفعت فيها وتيرة التجني والتحرش بالجزائريين بدون مبرر أو سبب، وانتشرت ظاهرة هضم حقوق الجزائريين بشكل ملفت، وغدا الإستفزاز والعدوانية بشكلهما السافر من الصور المألوفة التي تطبع حياة الجزائري في بلده. وبسبب حرب التحرير الجزائرية سقطت الجمهورية الرابعة على إثر سقوط حكومة «فيليكس لاغايار» بتاريخ: 15 / 04 / 1958، ولم يستطع خلفه «بيير فليملان» أن يعرض حكومته على البرلمان يوم 13 / 05 / 1958. وعلى مدى سِتِّ سنوات كاملة من اندلاع الثورة، ظلت فئة أوروبيي الجزائر المنادية بشعار «الجزائر فرنسية» تصبُّ الزيت على النار، وظلت هي مصدر التطرف والمحرض على تأجيج العنصرية والفتن بمواقفها العِدَائية المتشنجة، ومطالبتها بجعل حد نهائي للثورة الجزائرية، فضلا عن كونها الحليف الطبيعي والداعم المباشر لسياسة الإستيطان، وكانت في كل وقت وحين وراء أي تمرد للجنرالات، وضجت تلك الفئة المجرمة من انتصارات الثورة الجزائرية في الداخل وتسجيلها للعديد من الإنتصارات في الخارج، فما كان من طائفة الكولون إلا التعجيل بتحقيق ذلك التمرد الذي أتى ب ''دو غول'' إلى الحكم ظَنًّا منها أنه المنقذ الذي سوف يخلصها من جيش وجبهة التحرير، ويضمن لها الإحتفاظ بفردوسها الذي لا تقو على الإبتعاد عنه فكيف بمفارقته المفارقة الأبدية التي لا لقاءة بعدها !!! وبعد مجيء دوغول للحكم حاول بمكره وخداعه أن يُصِمَّ اذنيه، وأن يستخدم المنطق غير المجدي الذي استخدمه سابقوه، وقرر المضي في الدرب الذي ساروا عليه، وأراد أن يقدم طرحه «الجزائر جزائرية» وهو تصور مسرف في الخداع، ومسرف في التآمر ومسرف أيضًا في محاولة سحب البساط من جبهة وجيش التحرير وعزلهما عن مجرى الأحداث، محاولة منه للإحتفاظ ب ''الجزائر الجديدة'' كما كان يتوهمها بعيدًا عن تطلعات وطموحات شعبها، وإرادة جبهة وجيش تحريرها الوطنيين، وانقلب في نهاية المطاف السحر على الساحر، وانفضحت على الملأ جميع خداعات دوغول التي لم تستطع أن تسترضي لا أوروبيي الجزائر المطالبين بالإبقاء على «الجزائر الفرنسية» ولا أن تقنع المسلمين الجزائريين الذين فوضوا أمرهم لجبهة وجيش التحرير، وراهنوا على انتزاع حريتهم بالإستشهاد والتحرير الشامل والكامل المفضي لتقرير المصير والإنفصال التام عن فرنسا. وقد فهم دوغول بعد أن درس كل الإحتمالات أنه لا خلاص لفرنسا من ورطتها في الجزائر إلا الفرار بجلدها، وأنه لا خيار أمامها سوى مواجهة الحقيقة على الرغم مرارتها وعدم تقبلها بسهولة بالنسبة للكثيرين من الغلاة والمتطرفين، وقد أدرك دوغول بعد أن استنفد كل الجهود أنه لا مستقبل لفرنسا قوية في المجتمع الدولي وهي باقية في المستنقع الجزائري تتكبد الخسائر تلو الأخرى على يد كتائب جيش التحرير الجزائري الذي أصبحت له قدم راسخة في إدارة المعارك بمهنية واقتدار، وآمن بعدالة قضيته وصمم على المضي في طريق الإستشهاد. وقد قرأ دوغول كل ذلك قراءة فاحصة ومتأمِّلة، واستخلص أن الإستمرار في مواجهة جيش التحرير أو الإدعاء بالقضاء عليه في الميدان هو ضرب من الإنتحار واستنزاف للقدرات الفرنسية التي لم يعد بإمكانها مواصلة هذا النهج الخاسر الذي كلفها الكثير من تبديد المال، وكبدها خسائر مختلفة على مستويات شتى، وبعد أن فكر وقدر تأكد أن أسوأ الحلول هو الحل، وأن البقاء في الجزائر هو القضاء على فرنسا، ومن ثم جاءت كل الإجراءات التي اتخذها دوغول لإنقاذ فرنسا اجراءات تصب في مصلحة المستقبل الفرنسي، على الرغم من المواقف المتطرفة للأوروبيين في الجزائر، ومن ورائهم طائفة من الضباط المتمردين على توجهاته وسياسته التي خالفت مصالحهم، وتعارضت مع تطلعاتهم الكولونيالية ومستقبلهم الآفل الذي غدا هدفًا من أهداف الثورة الجزائرية. وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بالتوتر والتشنجات التي تنتج عن المجابهة والصراع قرر دوغول زيارة الجزائر يوم 08 ديسمبر 1960، لجس نبض المناوئين لسياسته من الأوروبيين والضباط وقد تَضَمَّنَ برنامج زيارته متابعة مشروع الإستفتاء الشعبي المقرر تنظيمه في نهاية الأسبوع الأول من شهر جانفي1961 (داخل فرنسا يوم 08 / 01 / 1961، وفي الجزائر ما بين 06 و 08 / 01 / 1961) ولم تُفَوِّتْ فئة المستوطنين الأوروبيين زيارة دوغول، واستقبلته بمظاهرات غاضبة ومنددة بسياسته، وقد طبع تلك الظاهرات التوتر والسخط، وشملت العديد من المدن التي يستوطنها الأوروبيون، وقد حاول الأوروبيون أن يعطوا لمظاهرتهم طابع الشمول ليثبتوا لدوغول مدى تماسك صفهم، فضلا عن الترويج الدعائي لورقة «جبهة الجزائر الفرنسية»التي راحوا يستثمرونها في هذه المناسبة. وبالمقابل كان للمسلمين الجزائريين من جهتهم الذين يمثلون الأغلبية الساحقة والكثرة الكاثرة الدور الرائد في طرح مطالبهم التي لا تتقاطع مع مطالب الأوروبيين، واغتنموها فرصة للتعبير عن قضيتهم العادلة، ونزلوا للشوارع مطالبين ب «إستقلال الجزائر» ورافعين للشعارات المنادية ب «حياة جبهة التحرير» و«حياة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية» و«تقرير المصير» و«الجزائر المسلمة» رَدًّا على شعار ( الجزائر جزائرية ) و«المفاوضات العاجلة» مع ممثلي جبهة التحرير ، وظهرت الراية الوطنية وبكثرة بين أيدي جموع المتظاهرين الذين غَصَّتْ بهم شوارع بلكور وصالمبي، وشارك في هذه المظاهرات العارمة حتى النساء والأطفال، وفي سرعة البرق انتقلت المسيرات الشعبية الحاشدة إلى أحياء أخرى بالعاصمة كالعناصر والقصبة وباب الواد، وانضم الشعب إلى المظاهرات بتأييدها وتأطيرها وتوجيهها الوجهة الملائمة التي تخدم القضية الوطنية، وتساهم في التعبير عن الشعور الوطني وما يختلج في النفوس من المعاناة. وأثناء تلك المظاهرات التاريخية وقعت مشادات بين الأوروبيين والمتظاهرين الجزائريين، وبلغ الإستفزاز مداه ولم يبق مجالا لضبط النفس، وانفلتت الأمور، وأطلق المجرمون النار على الجزائريين وتطورت الأحداث وأخذت منعطفًا جديدًا، وكان رد فعل المتظاهرين الجزائريين على القتلة قويًا ومتناسبًا مع درجة العدوان وحجم الجرم، وامتد رد الفعل إلى تحطيم متاجر الأوروبيين وسياراتهم، وتدخلت عناصر الجيش والشرطة والدرك والمضليين، فضلا عن المستوطنين الذين كانوا مسلحين، وظلوا يمارسون بشكل انتقامي لعبة اصطياد الجزائريين من شرفاتهم، فيردونهم قتلى، وسقطت أعداد غفيرة من الضحايا والمصابين. وانحازت قوات المضليين والشرطة والجيش والدرك إلى جانب القتلة والمجرمين، وأصبح الرصاص من كل الإتجاهات يُصَوَّبُ نحو المتظاهرين الجزائريين الذين راحوا يتهافتون على الموت في سبيل قضيتهم المقدسة، ولم تغن لا المتاريس ولا الأسلاك الشائكة التي تَحَصَّنَ بها الجبناء خوفا من وصول الجزائريين إليهم، لأن الشعب برمته تحدى آلة البطش، وحطم كل ما من شأنه أن يقف في سبيل نصرة قضيته، فضلا عن موقفه الموحد ووعيه الوطني وإدراكه لساعة الحقيقة وقناعته الراسخة من تحقيق التحرير بوساطة المجابهة والمفاداة والإستشهاد. واستمرت المظاهرات على مدى ثلاثة أيام كاملة في العديد من المدن الجزائرية كالجزائر العاصمة ووهران والبليدة وقسنطينة وعنابة وشرشال وبجاية، وأثبت الشعب الجزائري للمجتمع الدولي ولكافة أمم العالمين عدالة قضيته ومشروعية كفاحه، ووضع المحتل الغاصب وساسة فرنسا ومن يقف إلى جانبهم ويتحالف معهم من قوى الظلم والطغيان ضد الشعب الجزائري أمام الأمر الواقع، وجعلهم في مواجهة حرب ضروس مفتوحة على كل الإحتمالات ومستمرة في ميادين الوغى، والخاسر في هذه الحرب هو من يغذيها ويدفع ثمنها ويعمل على استمرارها وإطالة أمدها، ويطمح إلى الإستثمار في مشاريع مبنية على الوهم وسراب مزاعم «الجزائر الفرنسية » التي انهارت أُسُسُهَا وَخَرَّ سقفها وتلاشت معالمها مع بدايات الساعات الأولى من الفاتح من نوفمبر 1954. وكان ذلك اليوم الخالد في تاريخ الثورة الجزائرية درسًا حاسمًا تأكد من خلاله حفدة القردة والخنازير من ضآلة حجمهم وحقيقة عددهم التي تمثل الأقلية التي لامعنى لها، واستخلص المستمسكون بأكذوبة «الجزائر الفرنسية» الواقع الحقيقي الذي أفرزته مشاهد صارخة من مَخْبَرِ ذلك اليوم الأغر، وربما يئس المتطرفون منهم قبل المعتدلين من جدوى مواصلة «مواجهة سياسة التخلي»، التي أرادوا أن يملوا بها شروطهم للإبقاء على هيمنتهم الطاغية وإرادتهم المجحفة القائمة على البطش والعدوان. وتبقى مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر الخالدة محطة فارقة في كفاح الشعب الجزائري، وخلاصة للصراع المرير الذي أفرزه تفاقم المظالم والجور على مدى سِتِّ سنوات كاملة من اندلاع ثورة نوفمبر المجيدة، التي كانت فاتحةً وأملا لنهاية البؤس وعهود الإحتلال الثقيلة والمظلمة وما صاحبها من تخلف وانحطاط ومسخ وفقدان للسيادة الوطنية طيلة أكثر من قرن واثنتين وثلاثين سنة . أحمد بن السائح المركز الثقافي الإسلامي بسكرة