... وجاء الخبر.. في عالم جميل حاول ''لوكليزيو'' الروائي الفرنسي أن يخلق حيزا مهما له في الأدب الفرنسي والعالمي، ولكن برؤية أخرى ونهج آخر يختلف تماما عن عالم الرواية الجديدة التي عرفتها فرنسا وهذا راجع إلى خصوصية عرف بها وهو الذي عاش وحيدا منعزلا بإرادته تائها على الأرض منذ سفره الأول إلى نيجيريا، حيث كان أبوه يعمل هناك، فكانت انطلاقة تأملية لاكتشاف أناس آخرين غير الأوروبيين. بدأ الرحلة الممتعة فجاءت متشبعة بثقافة انسانية هي عبارة عن تنقل بين قلوب المهمشين في الحياة ومن لفظتهم المجتمعات في عوالم بعيدة عن الغرب، وكانت صرخات ضد الهمجية الغربية وانتقاد نافذ عن حضارة مزيّفة ورفض لظلم وحروب ضد أنواع من البشر لا يحس بهم العالم الأول ! . هي كتابات بصمات تفرّد بها ''لوكليزيو'' لأنه في روايته ''سمكة من ذهب'' ينقل لنا جانبا من حياة البنت ''الصحراوية'' ''ليلى'' الهلالية التي تنتقل بين الكثير من دول العالم بعد اختطافها ثم تعود إلى قريتها الأولى لتعيش المأساة وتعمل على الحل. بأسلوب بسيط جميل وأفكار متّزنة كوّن هذا الكتاب مكانة وقيمة عالية ليس فقط لأنه يقف مع الحق، لكنه يعرف ما هو القائل: ''الحرب إذا فتحت فمها لا تغلقه؟!'' . نتجت عن ذلك مشاكل بالنسبة له رغم أنه ظل بعيدا عن المعارك السياسية مكتفيا بالمعارك الأدبية، فثارت ضده المجموعات اليهودية الصهيونية بعد صدور رواية ''نجمة تائهة'' ومن هنا كسب احتراما، وهو الرجل العاشق للتواضع والحرية، البعيد عن الأضواء والبهرجة، المحب للفضاء الواسع الهاديء الذي يسكنه الإخضرار والطيور والمياه الصافية المبحرة في الأدب، هذا الروائي الفرنسي يقف دون تكلف وبسحرية وجمالية عن طرح قضايا من الجوانب الانسانية في حياة الكثير من الشعوب خاصة المضطهدة والمتعرضة للإبادة، فهناك كم منجز عنده من تراث الهنود الحمر والمكسيك والهند الصينية وينبهر أمام محافظة اليابان على الهوية لأنه أيضا ضد تهجين الثقافة، ويقف الكثير من الأحيان مع أصالة الشعوب فجسّد كل هذا في أعمال مثل: أغاني العيد ودييغو وفريدا. بحس مرهف وبنفس النّفس يعود هذا الأديب الكبير إلى أصوله الأولى، الجذور الموريسية، فيتعمّق في ثنايا ذلك الفضاء ويتصل بواقع مجسّد روح الحياة هناك، وبداية حياة أجداده، متسائلا في رواية ''رحلة إلى رود ريغيس'' من أنا؟. لكن من الباعث لمتدفقات النهر، خاصة إذا كان هذا ليس كبقية الأنهار الأخرى، ففي المرايا صورة لأسباب نبوغ ''جان ماري غوستاف لوكليزيو'' فهو الذي جاء من أصل أب طبيب متعلم ''بروتوني موريس'' وأم فرنسية، فلقي الدفء في بيت عائلي، يملك مكتبة مكّنته من الاطلاع الجاد، كما أضافت إليه الرحلة التاريخية عبر البحر إلى نيجيريا الشيء الكثير، فهو يعتبرها حافزا على بداية الكتابة إذ وظفها في ابداعه وخاصة الأسطر الأولى قبل أن يشق طريقه الشائك الجميل وقد أعادته هذه الرحلة إلى تذكر أجداده الذين كانوا بحارة، أي أن البحر الموحي الساحر والباعث على التأمل والعطاء، لم يكن غريبا عنه. إلى جانب ذلك، هناك معطيات أخرى، كوّنت شخصية هذا الرجل الأدبية وهي تنقله عبر بلدان ذات عبق وسحر وجمال ونكهة خاصة، فكانت نيجيريا وكوريا والمكسيك وبوسطن والمغرب، هي التجربة عنده والذكريات والكلمات النّفاذة إلى القلوب، فمن أوراقه ينتشر عطرها وطيبها. بهدوء أظهر ''لوكليزيو'' بأنه صاحب ترحال معرفي مهم، فهو الروائي والشاعر وكاتب الطفل والمترجم، وبذلك يملك خزانة ثرية بها مؤلفاته التي فاقت الثلاثين كتابا في المجالات المذكورة آنفا. في تجربته يستفيق على كاتب هو من القلائل الذين حصلوا على ''نوبل'' ورأيهم واضح في الكثير من القضايا العادلة، فهاهو ''لوكليزيو'' بعد فلسطين يتجه إلى الصحراء الغربية، ليكشف القضية ويصدر مؤلفا بمشاركة زوجته الصحراوية الأصل، هو ''أناس الغمام''، ومن ذلك، جسّدها بإنسانية حاذقة. هكذا تأتي الجائزة هذه المرة وتمنح بطريقة تختلف عن المرات السابقة في أشياء كثيرة، فالكاتب هو فرنسي أوروبي، ولكن كتاباته مميّزة ومواقفه واضحة انسانية، خاصة من المظلومين... هي في إبداع يبقى مخلّدا وان كان صاحبه قد دخل التاريخ من قبل وليس اليوم. ------------------------------------------------------------------------