نقلت أخبار أخيرة من الجزائر أن العام 2010 وحده شهد تسجيل أكثر من 360 قضية فساد ، ما يعني 36 قضية كل شهر وهو رقم مقلق ويدل على أن الفساد تحول الى ظاهرة حقيقية في النظام الاقتصادي الجزائري ، وأن معالجة هذا النوع من الظواهر المسيئة لاستقرار الدول يتطلب معالجات جديدة . فما هي المعالجات المناسبة؟ وكيف نفهمها في المحتوى الجزائري؟. الفساد الواسع من غياب الحكم الصالح أسئلة عديدة تطرحها حاليا إشكالية الإصلاحات في الجزائر: أسئلة في المنظومة الاقتصادية، في إصلاح النظام التعليمي، في إصلاح المؤسسة الانتاجية، في إصلاح النظام البنكي ونظام التجارة الخارجية والنظام المحاسبي، ثم التحرر من التبعية للسوق الخارجية وأسواق الطاقة. ويطرح الجيل الحالي ممن فاته أن يعاصر مرحلة انطلاق التنمية الشاملة خلال السبعينات والتحكم في إدارة المال العام أسئلة أخرى لها صلة بمشاهداته عن الراهن من جهة وعن التطور المستمر الذي مازال العالم يحققه في مجالات المعرفة والإدارة والإنتاج والحكم والديمقراطية والشفافية والإندماج الإجتماعي من جهة ثانية. ويبقى واحد من أكثر الأسئلة إلحاحا هو: ما حدود مسؤولية طبيعة الحكم وحيثياته في تراجع الواقع الجزائري عن معايير الصلاح والرشادة، مما حول القطاع المالي وقطاع الصفقات في الدولة إلى ساحة خصبة للفساد ومرتعا للمسؤولين الفاسدين، وكيف يمكن مسائلة أولئك المتسببين عن ذلك؟ وما الذي يجب البدء به لاستدراك ما فات ولبناء مستقبل أحسن؟. وتشكل الإجابة عن هذه الأسئلة الأخيرة جزءا من الإجابة عن السؤال الأهم: كيف السبيل الى إصلاح وطني شامل وناجع يحاصر ظاهرة الفساد في دوائرها الرئيسية؟. لفساد الحكم في البلدان العربية والدول النامية مظهران رئيسيان: فساد النظام السياسي، وفساد الإدارة العامة للموارد. ويتجلى المظهر الأول في غياب الديمقراطية وفي انتهاك حقوق الإنسان مما أثر سلبا على اندماج فئات المجتمع في إدارة الحكم، ويتجلى المظهر الثاني في ممارسات الفساد المالي والسلوك الريعي مما عطل التنمية بشقيها الإقتصادي والإجتماعي وساعد على انتشار ظاهرتي الفقر والبطالة. وتشكو جل الدول العربية من أنظمتها الحاكمة والتي غالبا ما تلجأ في تبرير وجودها واستمرارها الى المشروعية التاريخية أكثر مما تستند الى الشرعية الديمقراطية، الشيء الذي يفسر اتكائها على نظم أمنية داخلية جد متحكمة وعلى مؤسسات دستورية وقضائية مهمتها استدامة السلطة، وذلك لشعورها بالضعف والتهاون أمام الحكم الصالح أو كما قال »جيرمي بوف«: »تكتسب أي حكومة شرعيتها من إرادة الشعب وأية انتخابات تفقد النزاهة تؤدي حتما الى عدم الاستقرار والى الفساد«.
الحكم الصالح من منظور عالمي وضعت هيئة البنك العالمي 22 مؤشرا لاختبار وتحقيق الحكم الصالح: 12 مؤشرا منها تخص »المساءلة العامة« و10 تخص »جودة الإدارة«. ويتم ترتيب الدول بحسب موقعها من هذه المقاييس على سلم يتكون من 17 رتبة حسب عدد دول العينة (التي تؤخذ من مناطق مختلفة وحسب مستويات دخل مختلفة أيضا)، وبحسب معدل صلاح الحكم وتتراوح علامة الدولة من صفر إلى 100. وتغطي الأسئلة حقولا عدة وحيوية تجسد مدى اندماج الشعوب في مسار أنظمتها الحاكمة، وهي: مؤشر المساءلة الشعبية، جودة الادارة، حرية الاعلام، شفافية المعلومات، الأنظمة المحاسبية الملائمة، دور المجتمع المدني. وهكذا لا يمكن الحديث عن حكم صالح إلا بتوفير آليات تحقيقه على الأرض الواقع وآليات أخرى لاستدامته وتطوره. وتشكل الإنتخابات والمساءلة النزيهة والمحايدة مثلما يشكل القضاء المستقل والإدارة المنظمة والاعلام المستقل رأس هذه الآليات. وعن الاعلام المستقل لا يكاد يمر يوم واحد من يوميات الوطن العربي والنامي دون أن نسمع عن مقايضات تطال رجال الصحافة، ولا زالت المعركة محتدمة بين السلطة التنفيذية وسلطة الصحافة في أكثر من بلد عربي واحد على خلاف ما هو عليه الحال في البلاد الديمقراطية في أوربا وأمريكا، هذا الوضع يعبر بشكل غير قابل للنقاش عن مدى قدرة الإعلام في إثارة قضايا الفساد ومن ثمة تشكيل رأي عام يقظ، مندد ومكافح. نحو ميثاق وطني لمكافحة الفساد للبلاد العربية خصوصيات ثقافية وتاريخية راسخة، فأدبيات الحكم الصالح متضمنة في التارخين العربي والإسلامي تحت مسميات عديدة : السياسة الشرعية (الحكم الصالح). - الحسبة (المحاسبة والمساءلة). - العدل (تساوي الفرص). - الأمانة (الشفافية). وقد أفرد العلامة عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته فصولا كاملة عن نظام الحكم وكيف يؤدي البذخ التوسع في الإنفاق الإستهلاكي الى ضعف الدول وانهيار الأمم: »بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ورفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري لا يقدر على مباشرة حاجته: إما عجزا لما حصل له من الدعة أو ترفعا لما حصل له من المربي في النعيم والترف، وكلا الأمريين ذميم، وإذا فسد الإنسان في قدرته في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة«. ربما نحتاج اليوم إلى رؤية عملية عن خطة لتحقيق حكم صالح نسميها »ميثاق وطني لإقامة الحكم الصالح ومحاربة الفساد«، حيث تبادر الحكومة الى إطلاق مبادرة عملية نسميها »مبادرة الحكم الصالح« عبر حوار مفتوح إعلاميا وورشات تفكير مزودة ببرنامج ومنهجية ورزنامة. وتناضل الجمعيات المدنية ذات الصلة من أجل دفع الحكومة الى إطلاق هذه المبادرة في أقرب وقت. وتشارك في هذه المبادرة الهيئات الفاعلة في المجتمع وأن يكون للهيئات الدولية صفة خاصة لا تتعدى تقديم المساعدة الفنية وعرض التجارب التي يمكن الإستفادة منها. وأن تخلص هذه الورشات الى صياغة ميثاق شرف نسميه »ميثاق سلوك« يحمل صفة الإجماع والإلزام وتتعهد باحترامه وتطبيقه جميع الهيئات المذكورة. ويتضمن هذا الميثاق »ميثاق سلوك« قواعد محددة تخص العناصر الآتية : 1 التعيين في المناصب الوزارية والسامية للدولة. 2 الإنتخاب الشفاف والنزيه. 3 المساءلة ومحاسبة الحكومة لدى ممثلي الشعب. 4 المحاسبة الوطنية ولإصدار التقارير الدورية عنها. 5 عمل الجهاز القضائي على أساس الإستقلالية. 6 الحصول على المعلومات والوثائق. 7 ممارسة حق الإعلام وإبداء الرأي والتظاهر. 8 إدارة الموارد العامة. 9 التنافسية وتسليم الصفقات. 10 تأسيس ودعم المجتمع الأهلي. 11 العلاقة بين السلطات الأمنية المختلفة والسلطة السياسية. وأن يجري تطبيق التعهدات والإلتزامات وتأسيس الهيئات المكلفة بمتابعة الإصلاح على مراحل مدروسة. وينبغي ألا تلغي هذه الخطة المؤسسات الموجودة بل ترمي الى إصلاحها وإكمال النقص بها، وأن يتم التركيز لدى التنفيذ على الموارد البشرية قبل النصوص والمؤسسات. ربما بهذه الطريقة ينخرط الجميع بما في ذلك نواب البرلمان في محاصرة ظاهرة خطيرة اسمها »الفساد«.