إذا كان أحد لم يخطر بباله أن يتصدع النظام التونسي والمصري ويتهاوى في لمحة بصر كما تتهاوى القصور الرملية، فعلى العكس تماما إذ توقع الكثير من المحللين والمراقبين السياسيين أن يشهد اليمن أياما عجاف ويعيش اهتزازات ربما ليس بالخطورة التي نشهدها هذه الأيام، لكن اهتزازات تقود إلى احداث القطيعة مع الماضي وتغييرات على الخريطة السياسية وحتى الجغرافية لليمن. صحيح أن أحدًا لم يتوقع أن تنهار القلعة التي بناها مبارك وجاره بن علي على ظهر شعبيهما مباشرة بعد تسريب وثائق ويكيليكس التي كانت بمثابة معاول سلمت للشعوب العربية بفعل فاعل لتهديم أسس انظمتها لكن بالمقابل كان جليا للجميع وذكرناه في العديد من مقالاتنا بأن النظام اليمني يتوفر على كل الأسباب والمعطيات ليعيش وضعا صعبا بالنظر إلى أزماته وتعدد ملفاته، فهو يتخبط منذ سنوات في أزمة سياسية بين السلطة الحاكمة والمعارضة، وأخرى أمنية ناتجة عن نشاط تنظيم القاعدة والحرب على الإرهاب المتواصلة منذ نحو عقدين، كما عاش ويعيش ارهاصات حرب دموية ضد الحوثيين في الشمال ويواجه حراك الجنوب الذي يسعى لما يسميه الانفصال وفك رباط الوحدة التي قامت في 22 ماي عام 1990 بين شطري البلاد الشمالي والجنوبي. ويواجه اليمن أيضا أزمات لاتعد ولاتحصى مع الاقتصاد المتداعي والتنمية الضعيفة والفقر والبطالة، إضافة إلى قضية التوريث والفساد والعديد من الملفات الاجتماعية والاقتصادية للسوداء.. لقد كان اليمن مهيئا اكثر من أي دولة عربية أخرى لمواجهة اعصار مدمر تزلزل عواصفه الهوجاء أركان النظام، وما عجل من قدوم هذا الاعصار هو ماكشفته وثائق ويكيليكس من اسرار صورت صالح كعميل لأمريكا يتستر على جرائمها التي ترتكبها في حق اليمنيين باسم مكافحة الإرهاب، كما أن الهزات التي اطاحت بمبارك وبن علي عجلت بانتفاضة الشعب اليمني وخروجه إلى الشوارع للمطالبة باسقاط النظام. ومع بداية الأزمة أدرك صالح حجمها وصعوبتها فسارع إلى تقديم سلسلة من التنازلات إذ تخلى عن مشروع توريث الحكم لنجله الأكبر، وأدار ظهره للتمديد أو للترشيح لولاية رئاسية جديدة، وقَبِل بمقترحات إصلاحية سياسية ودستورية طرحتها المعارضة المنضوية تحت لواء تكتل "اللقاء المشترك" والتي من بينها تحول نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني وتقسيم البلاد إلى أقاليم أي اقامة نظام فدرالي. باختصار، صالح قبل بكل الطروحات وانحنى أمام كل العواصف مقابل أن يظل في الحكم حتى نهاية عهدته سنة 2013 ليغادر بشرف وبدون أي مساءلة أو محاسبة. لكن المحتجين الذين تبنوا سياسة »خُد وطالب« حددوا منذ البداية سقف مطالبهم وهو تنحيته... وخلال شهرين من الاحتجاجات التي خلفت عشرات الضحايا، في بلد كل سكانه مسلحون، فشلت مختلف المبادرات الداخلية والخارجية والوساطات في حل الأزمة لهذا فإن الكثيرين يتساءلون اليوم وبعد كل هذا الفشل هل تتمكن المبادرة التي قدمتها دول مجلس التعاون الخليجي أول أمس تجاوز المعضلة اليمنية المستمرة منذ أواخر شهر جانفي الماضي، خاصة وأن كلا الطرفين، النظام والمعارضة وافقا عليها وإن كان الأمر بتحفظ وبشروط بالنسبة للطرف الثاني؟. الجواب سواء بالايجاب أو بالسلب سابق لأوانه لكن من الضروري الاشارة إلى أهمية ماتتضمنه هذه المبادرة التي تنص على نقل صالح صلاحياته إلى نائبه في غضون ثلاثين يوما وتشكيل حكومة وحدة وطنية تقودها المعارضة مقابل منح ضمانات له ولمساعديه وأقاربه من الملاحقة القضائية. واذا كان الرئيس اليمني كما سبق وقلنا قد وافق على التنحي مقابل منحه الحصانة من المحاكمة فإن تحفظات وشروط المعارضة تضع مبادرة التسوية على المحك وتجعل احتمال نجاحها رغم الاشادة الأمريكية بها ضعيفا، ومن جملة هذه الشروط أن يشكل الحزب الحاكم الحكومة الانتقالية منفردا قبل تنحي الرئيس بشهر، وأن تقر الاعتصامات حقا دستوريا لايجوز منعها. كما أن اضمحلال نجاح هذه المبادرة مرتبط أيضا بالرفض الذي يبديه الشارع اليمني المنتفض لما وصفه بخيانة الأحزاب لقضيته، وايضا بمعارضته لكل المبادرات والمفاوضات التي تجري خارج ساحات التغيير.. المحتجون الذين يملؤون الشوارع اليمنية دخلوا على الخط الواصل بين النظام والمعارضة ليقطعوه وليؤكدوا بأن المعارضة التي تخلفت عن أداء دورها ولم ترم بثقلها خلفهم تريد اليوم ركوب قطار »الثورة« وقطف ثمارها دون تضحيات تذكر، لهذا، فهم يطالبونها أولا بالخروج من المنطقة الرمادية واتخاذ موقف يتوافق ورغبتهم في اسقاط النظام بكل أطيافه العسكرية والقبلية والدينية وليس علي عبد الله صالح الذي لايمثل سوى رأس النظام... المبادرة المطروحة تبدو الحل الأمثل لحل الأزمة لكن الحسابات الضيقة وتناقضات المصالح وتضاربها، قد يجهضها ليأخذ الوضع في اليمن منزلقا خطيرا يدفع ثمنه الكثير من المدنيين قبل أن يرحل الرئيس وهي نهاية حتمية ومنتظرة. فضيلة دفوس