واجهت سوريا في السنوات الأخيرة مشاكل وأزمات خارجية عديدة، وتعرّضت لضغوط وعقوبات استهدفت خنقها وعزلها، لكنها أبدا لم تواجه أزمة بالحدة والخطورة التي تواجهها من شهرين والتي ترمي إلى إسقاط النظام. من العزلة إلى الانفتاح على الساحة الدولية لم تشهد سوريا مرحلة أكثر سوادا من تلك التي عاشتها في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الذي حرشها مع الأشرار في قائمة الدول الراعية للإرهاب، واتّهمها ببث عدم الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال دعم معسكر المقاومة الذي ينعته بمعسكر الإرهاب المتمثل في حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، وحزب اللّه اللبناني، ومن خلال الحلف الذي شكّلته مع إيران التي تنظر إليها أمريكا على أنها مصدر للاضطرابات بالمنطقة وبالعالم أجمع. وامتدّت الضغوط تشتد والاتهامات تنزل كالسيل الجارف على النظام السوري، الذي حاول البعض توريطه فيما يجري من عنف بالعراق واتهامه إما بعدم التعاون أو بتسهيل تسلل المقاتلين العرب لبلاد الرافدين لقتال قوات الاحتلال. وتبقى أخطر تهمة واجهها نظام الرئيس بشار الأسد وكانت لها انعكاساتها السلبية داخليا وخارجيا، هي توريطه من قبل أمريكا وبعض الدول الغربية وقوى 14 آذار بلبنان بالوقوف وراء اغتيال رفيق الحريري حتى قبل بدء التحقيق. وتعزّزت التهمة بإرغام الجيش السوري على الانسحاب من لنبان، بعدما ساهم منذ 1975 في إطفاء الحرب الأهلية، وعمل على صيانة أمن واستقرار الشقيقة الصغرى، كما تمّ تشديد العقوبات الاقتصادية على الشعب السوري. وتعرّضت سوريا إلى عزلة خانقة وصلت حِدّتها إلى درجة قطع أمريكا لعلاقاتها معها، واستدعاء سفيرها في دمشق. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ دخلت سوريا على الخط بأفعال استفزازية وإجرامية، ونسفت بناية روّج لها على أنها خاصة بالبرنامج النووي السوري. لقد تعرّضت سوريا خلال خمس سنوات لما تنأى الجبال عن حَمْله، ومع ذلك فقد صمدت وواجهت الحملة المعلنة ضدها بحكمة وبرودة أعصاب، إلى أن حصل الانفراج بعد أن تراجع اللبنانيون عن اتهاماتهم، وأعلن سعد الحريري عام 2010 بأن اتهام دمشق كان خطأ. وصادف ذلك مجيء الرئيس باراك أوباما إلى السلطة، والذي قرّر فتح صفحة جديدة ،حيث شطب اسم سوريا من قائمة الدول الممنوع السفر إليها، وأعاد العلاقات الديبلوماسية معها وسمّى سفيرا أمريكيا إلى دمشق. وفي الوقت الذي أخذ فيه النظام السوري يتنفّس الصعداء ويفكك أغلال العزلة ويستعيد دوره الخارجي، حتى وقعت الواقعة ودخل في متاهة أزمة داخلية لم يشهد لها مثيلا من قبل، تتصاعد حدّتها وتتشابك خيوطها وتتعقّد، خاصة وأن الذين يلهبون النار كثر، والذين يطفئونها منعدمون. لقد صمد النظام السوري أمام ضغوط بوش واستفزازات إسرائيل، وجحود الأشقاء وتجاوز عزلة العالم الخارجي، لكنه اليوم يتخبّط أمام أصعب أزمة يمكن لرئيس أن يواجهها أو ينجو منها. ورغم ما يقدّمه من تنازلات ومبادرات إصلاحية، إلا أن الطوق لا يبدو بأنه يتّسع حول عنقه، بل على العكس تماما إذ أصبح الشعب المنتفض أمامه والعقوبات الغربية وعصا الجنائية وراءه، وهو بينهما يحاول تطويق الأزمة وإطفاء النار، وتلبية مطالب الشارع التي ارتفع سقفها للمطالبة برحيل الأسد شخصيا. بين الإصلاح والرحيل...لمن الغلبة...؟ بعد تونس ومصر كنّا نعتقد بأن الحلقة الجديدة من مسلسل ما يسميه البعض »الربيع العربي«، ستدور وقائعها باليمن أو بأي دولة عربية أخرى مشتعلة، لكن المفاجأة فرضت نفسها لتزاحم سوريا ليبيا في ضخامة أزمتها، وليشارك الأسد القذافي بعض الهم الذي يعيشه. فالبداية في سوريا كانت متشابهة لما شهده ويشهده الشارع العربي في الكثير من البلدان، احتجاجات ومظاهرات للمطالبة بالإصلاح، سرعان ما تحولت إلى صدامات ومواجهات أريقت فيها الدماء وقتل فيها الأبرياء. ومع هذا التحول صعّد المتظاهرون من سقف مطالبهم، وأصّروا على رحيل الأسد شخصيا، ودخل الغرب على الخط وراح يتّهم النظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهذا الأخير يحاول أن ينأى بنفسه عن هذه التهم ويظهر حسن نواياه من خلال مبادرات للإصلاح. وبعيدا عن الساحة المشتعلة، هناك فضائيات تصبّ الزيت على النار وتعمّق الانسداد، وتؤلّب هذا الطرف على الآخر. احتمالات الحل بين المتفائلين والمتشائمين لقد انزلق الوضع في سوريا بسرعة شديدة وتحولت الإحتجاجات إلى مواجهات، وأبدى الرئيس بشار الأسد منذ البداية ليونة واإستعدادا للاستجابة لمطالب الشارع، فعرض حزمة من الإصلالحات بدأها برفع حالة الطوارئ المفروضة منذ 48 عاما. وأقرّ جملة من القرارات التي من شأنها أن تحسّن وضع الحريات بالبلاد، ومن ضمنها قوانين للانتخابات والإعلام والأحزاب، وطالب الحكومة بوضع آليات لمحاربة الفساد والبطالة والرشوة، وضبط الاتفاق الحكومي وإطلاق حوار شامل مع الفعاليات السياسية، لكن المنتفضين ردّوا يده الممدودة. وأعلنوا بأن النظام لم يعد صالحا للإصلاح، والواجب هو تغييره جذريا. وقد أدت هذه المواقف إلى تصعيد الأزمة، فزاد الاحتقان وكثرت الأخطاء وارتفعت قوائم الضحايا التي تقارب الألف قتيل، وبدأ سيل العقوبات يهطل على النظام السوري، والأوامر الغربية تصله »إمّا الإصلاح الحقيقي أو الرحيل«، دون أن يتركوا له فرصة لإقرار هذا الإصلاح، مماّ يفتح الوضع في سوريا على احتمالات عدة. أما المتفائل منها، فهي أن يهدأ الشارع قليلا ويمهل الأسد بعض الوقت حتى يتمكن من تنفيذ وعوده الإصلاحية، ويتجرّد من العناصر المحيطة به، والتي ينعتها الشعب بالشرذمة الفاسدة التي سفكت دماء المنتفضين. ويدعو أهل العلم السوريين ومن يصلح أن يكون من أهل الحل في الداخل والخارج برسم منهج جديد للبلاد، مع التمهيد لانتخابات نزيهة تحت إشراف دولي، وفرض العدالة ومحاكمة كل من أفسد وطغى، وفي مقدمتهم الذين عبثوا باقتصاد البلاد، والمرتزقة المتورّطين في جرائم ضد الشعب. أما الاحتمال الثاني، فهو أن يحضّر الرئيس السوري لانتقال سلمي للسلطة ينتهي برحيله. وللمتشائمين رأي آخر، إذ يتصوّرون بأن الأزمة ستزداد احتقانا، والشعب سيصرّ على رحيل الأسد، وسيترتّب على ذلك مزيدا من الأخطاء ومزيدا من سفك الدماء، تقابلها إدانات وضغوط وعزلة دولية متشددة، قد تمتد إلى تكرار التجربة الليبية ليتدخل الغرب عسكريا ويفرض الحل الذي يريده بالقوة ويرغم الأسد على الرحيل. وبين المتفائل والمتشائم، تبقى الأزمة السورية في تفاقم، ويبقى النظام في دمشق في عين الإعصار.