الحرص على حماية المريض وتوفير الأمان للطّبيب ضرورة خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وكرمه وجعله على رأس مخلوقاته في التفضيل والاعتبار، إذ قال سبحانه وتعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}، كما حثّ الله سبحانه وتعالى على المحافظة على النفس البشرية وارشد إلى صيانتها والاعتناء بها وعدم تعريضها للخطر سواء من صاحبها أو الاعتداء عليها من طرف الآخرين. فحرّم قتلها إلا بالحق وعاقب على القتل حتى ولو كان عن طريق ألخطأ وقد نحت التشريعات الوضعية هذا المنحى حتى غير المسلمة منها، في جميع المجالات والمناحي التي لها علاقة بالإنسان ومن ذلك الرعاية الصحية، فالمشرّع الجزائري على غرار التشريعات المقارنة اهتم بهذه الفكرة وجعلها حق من الحقوق الدستورية المكفولة للمواطن، بل جعلها مهمة من المهمات الأساسية التي تتخذها الدولة على عاتقها، حيث نصت المادة 64 من الدستور على أن: «الرعاية الصحية حق للمواطنين، وتتكفل الدولة بالوقاية من الأمراض الوبائيّة والمعدية وبمكافحتها وتسهر على توفير شروط العلاج للأشخاص المعوزين»، كما نصت المادة 12 من القانون رقم 18- 11 المؤرخ في 02 يوليو 2018 المتعلق بالصحة على أن تعمل الدولة على ضمان تجسيد الحق في الصحة كحق أساسي للإنسان على كل المستويات، عبر انتشار القطاع العمومي لتغطية كامل التراب الوطني». وفي هذا الإطار، أوضح محدّثنا بأن عملية الرعاية الصحية يتولاها أفراد مهنيين يتلقون تكوينا أساسيا في هذا المجال ولا يخفى على أحد الأهمية الكبيرة لمهنة الطب والميزة الإنسانية التي تسوده، والأعمال الجليلة التي يقدمها رجال الطب بمختلف درجاتهم. العلوم الطبية لا تعتبر من العلوم الدقيقة كون موادينها تخضع للإحتمال وبما أنّ العلوم الطبية لا تعتبر من قبيل العلوم الدقيقة كون جل ميادينه تخضع للاحتمال، فإن ذلك جعل الطبيب غير ملتزم قانونا بتحقيق النتيجة، وإنما ببذل العناية اللازمة التي تتطلب منه بذل كل ما في وسعه بصدق ويقظة لشفاء مريضه، غير أنّ الطبيب بحكم بشريته وفي خلال ممارسته قد يرتكب أعمالا يعدّها القانون أخطاء لسبب خروجه عن القواعد والأصول المعروفة في الطب أو بإهمال أو عدم الاحتياط الأمر الذي يخضعه للمساءلة، أخطرها المساءلة الجزائية التي قد تؤدي إلى تقييد الحرية. وقد ازدادت وتيرة الأخطاء الطبية في الآونة الأخيرة، إذ كثيرا ما نجد العناوين الكبيرة في الصحف اليومية تنقل لنا حوادث تقع بمستشفياتنا ضحيتها أشخاص وضعوا أغلى ما يملكون بين يد طبيب قد يكون مهملا أو غير محتاط، فيكون سببا في نتائج سلبية تلازم الضحية طوال حياتها، حيث تتنوّع الأخطاء بين إصابة رضع حديثي الولادة إلى أطفال نتيجة تلقيح أو عملية ختان إلى نساء حوامل في أقسام الولادة والتوليد إلى تشخيصات خاطئة وغيرها. الفقه يقسّم الخطأ الطبي إلى فني وعادي واختلاف في الدرجة المطلوبة لقيامه ويقصد بالخطأ الطبي حسب كفالي، تلك المخالفة أو الخروج عن القواعد والأصول الطبية التي يقضي بها العلم، أو المتعارف عليها نظريا وعلميا وقت القيام بالعمل الطبي، أو الإخلال بواجبات الحيطة والحذر واليقظة التي يفرضها القانون، متى ترتب عن فعله نتائج جسيمة، في حين كان في مقدوره أي الطبيب وواجبا عليه أن يتخذ في تصرفه اليقظة والتبصر حتى لا يلحق أي ضرر بالمريض. وبناء على ذلك قال كفالي: «باستقراء هذا التعريف يتضح أن الخطأ الطبي نوعان: خطأ طبي فني وخطأ عادي، فالأول يتعلق بأعمال المهنة الطبية ويتحدد بالرجوع إلى القواعد والأصول العلمية التي تحدد أصول المهنة، كأن يعطي الطبيب للمريض حقنة «بنيسيلين» دون إجراء أي فحص لحساسيته تجاه هذه المادة، فيموت المريض نتيجة تلقيه لهذه الحقنة، أما الثاني الخطأ العادي فهو كل ما يصدر من الطبيب عند مزاولته لمهنته دون أن يتعلق بالأصول الفنية والمهنية، كأن يستدعى الطبيب لاستقبال حالة فيتراخى حتى يموت المريض أو يمتنع عن التدخل من باب أولى، أو أن يقوم بتحرير شهادة وفاة طبيعية رغم علمه بأن الوفاة جنائية دون إخبار السلطات، أو إفشاء سر المريض دون مبرر أورضاء سابق». «الخطأ الطبي، الضّرر، العلاقة السّببية بينهما» أضاف ذات المصدر، في تفصيله لشرح الخطأ الطبي أن هذا الأخير يقوم على ثلاثة أركان أساسية هي الخطأ الطبي ووقوع الضرر ووجود العلاقة السببية بين الخطأ والضرر لاكتمال الوصف، وبالتالي قيام المسؤولية الجزائية، إلا إن هناك تباين حول درجة الخطأ الطبي المطلوب لقيام هذه الأخيرة، حيث انقسم على إثرها الفقه إلى رأيين، رأي يقول بعدم كفاية الخطأ البسيط لقيامها ويشترطون أن يكون الخطأ جسيما، وفريق آخر يقول بقيام المسؤولية مهما كانت درجة الخطأ بسيطاً أو جسيما. غير أن الرأي الراجح في الفقه والمؤيد بأحكام القضاء يذهب إلى القول بأن المعيار الذي يتعين أن يقاس به سلوك الطبيب المخطئ هو المعيار المختلط Le critère mixte الذي يقوم على السلوك المألوف من طبيب وسط في نفس فئة الطبيب المخطئ ومستواه، مع مراعاة الظروف الخارجية التي أحاطت به، فإذا انحرف عن سلوك الطبيب العادي عد مخطئا وتحمل المسؤولية. استبعاد حالات الخلاف في الآراء الطبية من خانة الخطأ الطبي ومع ذلك يلح الباحث كفالي على وضرورة عدم الخلط بين كون الخطأ واضحاً وثابتاً، وتلك الأخطاء التي تقع جراء عمل يدخل ضمن المسائل التي هي مثار خلاف بين الأطباء ولم يستقر عليها إجماع من الجهات الطبية، فلا يعتبر الأخذ بها ولا طرحها خطأ، طالما كان للطبيب في ذلك سنده العلمي القوي، فهذا كله لا يمكن للقاضي مناقشته لتقرير مسؤولية الطبيب، بمعنى أن تبني الطبيب لرأي علمي جديد مثلاً لا يعد خطأً، فالطبيب لم يخرج عن أصل ثابت ولم يخالف قاعدة مستقرة، ولكنه اختار بين رأيين لكل منها حججه وأدلته، فلا بأس إن خاب عمله طالما بذل قصارى جهده في علاج المريض. أما من ناحية التشريع الجزائري في هذا المجال، أكد ذات المصدر، أنه وكما سبق القول أن أغلى ما يملك الإنسان هو جسمه، فقد أحاطه المشرع الجزائري بجملة من النصوص والآليات التي من شأنها الحيلولة دون الاعتداء عليه إهمالا أوعدم احتياط، بإقرار المسؤولية الطبية الجزائية في حالات ارتكاب أخطاء تستوجب المساءلة الجزائية، من خلال ما نص عليه بموجب المادة 413 من قانون الصحة الجديد التي تنص على أنه: «باستثناء الضرورة الطبية المبررة، يعاقب طبقا لأحكام المواد 288 و289 و442 (الفقرة 2) من قانون العقوبات، كل مهني الصحّة، عن كل تقصير أو خطأ مهني تم إثباته، يرتكبه خلال ممارسته مهامه أو بمناسبة القيام بها ويلحق ضررا بالسلامة البدنية لأحد الأشخاص أو بصحته أو يحدث له عجزا مستديما أويعرض حياته للخطر أويتسبب في وفاته». وفي الأخير يشير ذات المصدر، بأن المسؤولية عن الأخطاء الطبية خاصة الجزائية منها أثارت الكثير من الجدل حول التوفيق بين فكرتين أساسيتين وجديرتين بالحماية في آن واحد. الأولى ضرورة الحرص على حماية المرضى مما قد يصدر من أخطاء قد تكون لها آثار سلبية على صحة المريض، وضمان توفير العناية الطبية اللازمة من خلال تأكيد قيام مسؤولية منتسبي الصحة عن كل ضرر يحدث للمريض. الثانية، توفير الحماية اللازمة لمنتسبي الصحة وضمان الثقة والأمان، فعندما يشعرون بأنهم مهدّدون بالمسؤولية فإنهم لا يستطيعون ممارسة مهنتهم ولا يقومون بالإبداع والابتكار، بل قد يتهربون من القيام بالأعمال الطبية الضرورية خوفا من الوقوع في الخطأ. تشديد العقوبات على مرتكبي الجرائم العمدية وخلص في هذا الصدد محدّثنا إلى الدعوة إلى ضرورة تشديد العقوبات في مجال ارتكاب الجرائم العمدية كالإجهاض وامتناع الطّبيب عن تقديم المساعدة، وكذا الإهمال وعدم الدقة واللامبالاة في التعامل مع المرضى وغيرها من الجرائم، من جهة، ومن جهة ثانية التخفيف من المسؤولية أو الإعفاء منها في الحالات غير العمدية، والتي يثبت فيها أن الطبيب قام ببذل عناية الرجل الحريص ولم يثبت تقصيره، إلا أن النتيجة كانت مخيبة.