طريقة بسيطة لكن فعّالة في حفظ المواد الغذائية للأيام الشّتوية الصّعبة أجبرت التقلّبات الجوية التي تشهدها ولاية باتنة كل فصل شتاء العائلات القاطنة بالقرى والأرياف بالمرتفعات الجبلية، إلى العودة لبعض الأنماط الحياتية التي كانت تميزها قديما، وتعتبر «العولة» من أبرز تلك المظاهر. «الشعب» قامت بتحريات، وتعرض أدق التفاصيل من عين المكان. رغم التطور الكبير الذي تعيشه العائلات الأوراسية حتى تلك القاطنة بالبلديات والأرياف بفضل توفّرها على الكهرباء والغاز التي تمّ إيصالها لأبعد النقاط بالولاية، وما رافقها من اقتنائها لمختلف الأدوات الكهرومنزلية على غرار الثلاجة، إلا أن سكان هذه المناطق لا يزالون يعتمدون في مواجهتهم لفصل الشتاء على «العولة» التي تعتبر سلوكا أصيلا لا يمكن التنازل عليه. بحسب الناشط الجمعوي عمار محمدي ل «الشعب»، فإن «العولة ثقافة راسخة في الأذهان منذ الأزل حيث يقصد بها تخزين المؤونة لاستغلالها عند الحاجة خاصة أثناء التقلبات الجوية في فصل الشتاء الذي يتميز في الاوراس بقساوة شديدة». وأشار محمدي عضو جمعية بانوراما للسينما والثقافة التي أطلقت «حملة شتاء دافئ» بمدينة عين التوتة، أن «العولة» من التقاليد التي تركها الأجداد وحرصوا على نقلها وتلقينها للأحفاد، خاصة القاطنين بالأرياف والمرتفعات الجبلية التي تشكل نسبة هامة من جغرافيا الولاية. تحضير تدريجي وتقنيات صارمة في التخزين والحفظ عادت «العولة» بقوة هذه السنة من خلال لجوء العائلات لتخزين كمية هامة من مختلف أنواع الطعام وحفظه، تحسّبا لهذه الأشهر العصيبة من الشتاء، حيث يتعذّر عليها الخروج من البيت لاقتنائها بسبب غلق الطرق وصعوبة السير، جراء العزلة التامة الناجمة عن تساقط الثلوج. لا يكاد يخلو منزل من منازل القرى والأرياف بجبال أريس، اشمول، مروانة، عين جاسر، نافلة....من «العولة» التي تتم حسبما أكدته لنا السيدة يمينة في أواني فخارية صنعت خصيصا لإخفاء ما يتم جمعه خلال فصل الخريف والصيف، خاصة تلك المواد الغذائية والخضر والفواكه التي لا تتعرض للتلف، حيث يتم إحاطتها بالعشب اليابس، وتغطيتها جيدا بالطين الذي يعد يعوض دور الثلاجة. وأوضحت السيدة يمينة ل «الشعب»، أن تخزين البقوليات كالعدس واللوبيا والفول والجلبانة والقمح، أهم مؤونة تحرص العائلات الأوراسية على ضمانها بطرق جيدة وفي أماكن خاصة كون عملية التخزين جد حساسة وتتعرض كل المواد المحفوظة بها للتلف في حال لم يتم تخزينها جيدا أو سكب فوقها الماء أو لامسها الهواء الخارجي. وبخصوص مادة القمح الضرورية في التغذية، أشارت السيدة يمينة إلى قيامها خلال فصل الخريف بطحن القمح وتحويله إلى سميد رقيق يتم خلطه وجمعه بالشحم، الذي يترك من بقايا عيد الأضحى، ويدخر هذا الأخير ليستغل خلال أسابيع الشتاء «العجاف». وتحضر «العولة» تدريجيا، باقتناء بعض المستلزمات الخاصة على غرار الشموع، أعواد الثقاب وكذا الصابون وقارورة الغاز. وعن ثقافة «العولة»، أكدت السيدة أنه رغم التطور الكبير الذي طرأ على الحياة باستفادتها من مشاريع تنموية مختلفة، كغاز المدينة وتجهيز المنازل بمواد التخزين الحديثة، بدخول وسائل حفظ الطعام، ومعلبات بها مختلف الأطعمة والأغذية الواسعة الاستهلاك، لم يمنع ذلك من الاعتماد على «العولة» لأنها ثقافة راسخة موروثة عن الأجداد، كما أنها تساعد ربة المنزل على إعداد وجبات سريعة في حال قدوم ضيوف فجأة، وغياب من يقتني لها تلك المستلزمات. وتتحدّث السيدة يمينة بحماس شديد عن مكانة العولة وأهميتها بمنازل الأوراس، بأن البيت الذي يحوز على مؤنة متنوعة في خزانة المطبخ أو في الغرفة المخصصة لذلك، يتميز بحضور عبق الماضي وسحر النكهة وعطر مميز ناتج عن الرائحة الطيبة التي تفوح من تفاعل المواد المخزنة على غرار التوابل وبعض الفواكه الجافة، الأرز، الزيت، الكسكسي، التمر، الثوم، وغيرها، والتي تصاعد منها رائحة طيبة. العيش بالقديد بمناطق نافلة، حيدوسة ومروانة رغم تفاؤلها بقدوم فصل الشتاء، إلا أن أغلب العائلات القاطنة بقرى وأرياف باتنة تخشى تقلباته واضطراباته الجوية، خاصة عند تساقط الثلوج، كونها تقطن بمرتفعات جبلية تكتسي حلة بيضاء تستمر لعدة أيام ينقطع معها تواصل هذه العائلات مع العالم الخارجي. في هذا الاطار أكّدت الحاجة جمعة لنا بأنّها تعوّدت منذ عقود على مثل هذه الظروف التي تواجهها بمؤنة منوعة تستغلها في إعداد الأطباق التقليدية التي يتصدرها العيش بالقديد الذي هو عبارة عن حبات صغيرة من العجين، تصنع غالبا في فصل الصيف ثم تترك لتجف وتطهى مع التوابل والخضر بمختلف أنواعها خاصة الجزر واللفت وغيرهما، يضاف لها قطع من اللحم المقدد المتروك خصيصا من لحم عيد الأضحى، والذي يعطيه ذوقا رفيعا لا يعرفه إلا من تذوقه ليعشقه مباشرة، وهي الوجبة التي تحافظ على دفء الجسم وتمنحه طاقة كبيرة. وفي هذا الصدد تقول الحاجة جمعة: «العولة كانت منذ القدم عنصرا أساسيا في تقاليد العائلة الشاوية خاصة القاطنة بالبلديات النائية والجبلية صعبة التضاريس، حيث ألجأ رفقة زوجات أبنائها وحتى جاراتها إلى طحن الطماطم وتحويلها إلى صلصة، وتفوير الفلفل الأحمر، وطحنه ووضعه فيما بعد في علب زجاجية لحفظه، كما يتم أيضا تجفيف الخضروات تحت أشعة الشمس أو تجميدها في الثلاجات بالنسبة لبعض المنال التي تتوفر على هذه الضروريات». من جهته كشف الحاج قدور من أعالي بلدية أريس لنا بأن عائلته خلال فصل الشتاء تستنجد ببعض الوجبات الغذائية التقليدية التي تنح الجسم طاقة وحرارة على غرار العيش بالقديد والبربوشة، وكذا مشروب التيزانة والزعتر، الذي يتم إنتاجه محليا في مزرعته وادخار كميات كبيرة منه لمثل هذه الظروف المناخية الصعبة. حرص على نقل ثقافة «العولة» عبر الأجيال وأوضح الحاج قدور بأن العائلات بالمناطق الجبلية شتاء، لاسيما أثناء تساقط الثلوج، تلجأ في معيشتها اليومية لاستغلال كل ما ادخرته من مواد غذائية، حتى أنها تتخذ من مياه الأمطار أو كميات الثلوج المتراكمة مياه للشرب، ونفس الشيء بالنسبة للحطب الذي يعوض قارورات غاز البوتان في التدفئة والطهي، في حال نفذت نظرا لطول «حصار الثلوج» لقراهم ومنازلهم. من جهته، أشار عمي الشريف أحد مواطني اشمول المعروفة بقساوة شتائها وصعوبة تضاريسها، انه يقوم كل سنة خاصة في فصل الخريف باقتناء بعض المواد الغذائية الواسعة الاستهلاك، قبل دخول فصل الشتاء يتم الاعتماد عليها خلال تساقط الثلوج وانخفاض درجة الحرارة، ونفس الشيء يقوم به مع مواشيهم التي يضمن لها العلف في مثل هذه الفترات، كون عائلات الاوراس القاطنة بأعالي الجبال تحرص على تربية المواشي والدواجن للاستفادة من لحمها في فصل الشتاء من خلال ذبح رأس من الماعز أو الدواجن لضمان الغذاء، خاصة عندما يتم عزل منزلهم عن العالم الخارجي بسبب كثافة كميات الثلوج المتساقطة والتي تستمر أحيانا لأكثر من أسبوعين كما حدث مؤخرا. كما تلجأ هذه العائلات يضيف الحاج قدور إلى شرب مياه الأمطار بعد غليها من خلال وضع الدلاء تحت شرفة المنزل أو في الفناء لتمتلأ عقب تساقط الأمطار خاصة في ظل استحالة الخروج من المنزل والوصول لمياه الينابيع والآبار. لقد اتفق كل من تحدثنا إليهم بهذا الخصوص خلال انجاز هذا الاستطلاع، أن ظاهرة «العولة» لا تزال تحتل مكانة هامة في حياة سكان الأرياف، وتحظى بالأولوية عند السيدات اللائي يحرصن على نقل هذه الثقافة لبناتهن أو تعليمها لزوجات أبنائهن حتى القاطنات في المدن. يحدث هذا رغم أن الأولويات في التخزين والطريقة تختلف من منطقة لأخرى، إلا أن الهدف هو تكريس هذه «القيمة الاجتماعية»، لما لها من تعزيز لثقافة الادّخار والتكافل الأسري والاستشراف بالمستقبل، رغم اكتساح مختلف مظاهر الحياة العصرية لنمط معيشة سكان الاوراس من أطعمة معلبة وأخرى مثلجة متواجدة في الأسواق والمحلات التجارية، إلا أنها لا تغني حسب ما استقيناه عن المنتجات التي تصنع باليد وتدخر في المنزل.