انتظر كثيرون ما يمكن أن تشهده الجمعة الرابعة عشرة للحراك الشعبي الجزائري من ردود فعل الشارع على ما عرفه الأسبوع الماضي من أحداث، وكان الشعور هو أن كثيرا مما سنسمعه أو نقرؤه قد لا يكون بالضرورة تجسيدا لإرادة الشارع الجزائري عبر الولايات 48 ولا يُعبّرُ عنه بصدق وموضوعية. فالحراك أصبح يتركز في مناطق معينة، وخصوصا في العاصمة الجزائرية، ربما لأن شرائح كثيرة أصبحت تحس بأن السلطة تستجيب تدريجيا لمطالب الجماهير وطبقا لأسبقيات لا تعرقل سير الدولة أو تؤثر على استقرارها، وبالتالي لم يعُدْ الحماس للتجمهر كما كان. رسالة الدكتور أحمد طالب كان العنصر الثاني الذي تُنتظر ردود الفعل حوله هو الرسالة الثانية التي أصدرها الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير التربية الوطنية ثم الإعلام في عهد الرئيس هواري بو مدين ووزير الخارجية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وهي الرسالة التي كانت حجرا ألقي في بركة الساحة السياسية، وخلقت وضعية اختلطت فيها أوراق الكثيرين واختلطت فيها الأمور على آخرين. كان البيان الأول الذي صدر باسم الثلاثي أحمد طالب وعلي يحيى عبد النور ورشيد بن يلس خيبة أمل كبرى كنت تناولت أهم معطياتها في الحديث الماضي، وكان العنصر الأكثر بروزا في ذلك البيان هو سيطرة منطق التوافق الذي كاد يكون نوعا من التلفيق. من هنا أتصور أن أحمد طالب، الذي درس بخلفيته الديبلوماسية ردود الأفعال، فضل أن ينفرد بنفسه لإرسال رسالته، والتي وجدنا فيها شخصيته كما كنا نتصورها أو نريد تصورها، وبرغم الحرص على عنصر التوافق فقد تكامل في الرسالة التعبير عن الخط الوطني والتجاوب مع مطالب الحراك الشعبي الرئيسية والتزام الصياغة الذكية في تمرير برقيات شفرية بالغة الأهمية، لا تغيب عن الأذكياء. وكان أول ما يمكن ملاحظته هو صعوبة أن نُحدّد ما إذا كان أصل الرسالة قد كتب بالعربية أم بالفرنسية، وهي نقطة أراها بالغة الأهمية لأن كثيرين رأوا في البيان الأول استهانة باللغة الوطنية (بالألف واللام). كانت الرسالة سلسلة من البرقيات الذكية التي لا يمنع الاختلاف مع بعض معطياتها التعبير عن الإعجاب بعبقرية الصياغة، فهي تقول بأن «الدستور من وضع البشر، أي لا يجب أن يكون متخلفا عن حركة الواقع ولا ينبغي أن يكون مُعوّقا لحركة المستقبل»، والخلفية هنا هي محاولة التأثير على من يتمسكون بحرفية النص الدستوري، وتدعو، بكل رصانة أيضا وبكل حزم، إلى «تغليب المشروعية الموضوعية على المشروعية الشكلية، انطلاقا من حق الشعب في التغيير المستمر»، وهو هنا يستند إلى اعتبار الهبّة الشعبية «استفتاءً لا غبار عليه». لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يعارض هذا الطرح، حتى مع اختلافه مع المضمون. وكانت الرسالة واضحة في إدانة لغة التخوين، برغم أن من خُوّنته الجماهير كانوا أساسا جماعة «الماك» وأنصار تفتيت الشعب. هنا يدعو طالب بذكاءٍ شديدٍ عناصر المعارضة إلى التجاوب مع ما تطرحه المؤسسة العسكرية ولكن الدعوة تقدّم بشكل عكسي، فهو يطالب المؤسسة بأن «تصغي إلى اقتراحات النخب وعقلاء القوم»، وكأنه يقول لشخصيات المعارضة: إن كنتم ترون أنفسكم من عقلاء القوم فعليكم بالتفتح للحوار. والرسالة هنا تقدم المؤسسة العسكرية كطرف مباشر في الحوار، وتلغي بذلك دور رئاسة الدولة، وهو ما يوضحه الدكتور طالب بقوله إن هناك انسدادا سياسيا ناتجا عن تعنت «السلطة» وتمسك «الحراك الشعبي» بمطالبه، لكنني كنت أفضل تفادي كلمة «تعَنت» واستعمال كلمة «تمَسّك» بالنسبة للجانبين، وأجد نفسي بالتالي في موقع التحفظ أمام قوله للمؤسسة العسكرية بأنها «لا تجب أن تكون سندا لمؤسسات لا تحظى بالرضا الشعبي حتى وإن كانت في وضع دستوري ثابت كان مبرمجا لحالات عادية وليست استثنائية كالتي نمر بها اليوم»، فهذا يتناقض مع منطق الدولة كما أراه، لكنني أضع الأمر في موضع محاولة تحقيق التوافق بين إرادة المؤسسة العسكرية والمطالب التي تُنسبُ للشارع، حتى ولو لم تكن تعبر فعلا عن إرادة جماهيرية جماعية، وكان وراءها بعض التوجهات التي تحاول تحقيق أجندة خاصة، انتقاما أو طموحا. ليس كل ما يقدم في تصريحات التلفزة هو تجسيد لرأي الشعب أو تعبيرا عنه. العهد الباديسي النوفمبري كان أهم ما تختلف فيه رسالة طالب عن البيان الثلاثي هو استعماله لتعبير (العهد الباديسي النوفمبري) في إدانة واضحة وصريحة لفكرة الجمهورية الثانية، وما تعبر عنه في واقع الأمر من إنكارٍ لكل ما أنجزته الجزائر بعد استرجاع الاستقلال، وهو ظلم للآلاف من الإطارات في مختلف المستويات ممن لم يدخروا جهدا في بناء البلاد، وبرغم الكثير من الأخطاء والعثرات، وهذه نفسها كانت تجاربُ لها قيمتها في تعديل المسار وتصحيح المسيرة. لعل اختتام الرسالة بالدعوة لنصرة فلسطين هو تعبير مزدوج رأيته بالغ الذكاء، فهو من جهة يذكر بالرئيس الراحل هواري بومدين وعبارته المشهورة عن نصرة فلسطين، ظالمة أو مظلومة، وهو من جهة أخرى يرد على بعض العناصر المتبربرة التي نددت برفع علم فلسطين في التظاهرات الشعبية، والذي يندرج في نفس المنطق السابق. الدكتور طالب تعمد أن يوجه رسالته لشباب الحراك، لأنه، على ما أتصور، أراد أن يقول لهم أنهم هم الطرف الرئيسي في المعادلة، وبأن ما يقوله ليس مجرد مبادرة، بل إعطاء الحق لأهله، وهو في هذا يتقرب منهم وينتظر بالتالي أن يتم تبادل هذا التقرب. ومعنى هذا أن على الحراك أن يُحسن التقاط الرسالة، التي بدأت بالبسملة، وخُتمت بتحية الإسلام، وهو ما دفع (الرويبضة) الفرانكولائكية إلى شن حملاتٍ تهجمت على الدكتور طالب، وصلت إلى اتهامه بأنه «بعثي»، في جهل تام بمعنى هذه الكلمة وبدلالاتها. لعل هذه التهجمات في حدّ ذاتها، مضمونا ومصدرا، هي أقوى دعوة للالتفاف حول هذا التحرك الخلاق للدكتور طالب، الذي أريد أن أتصور أنه وجّه ضمنيا دعوة للشخصيات السياسية لكي تحوّل رسالته إلى مبادرة سياسية خلاقة تمكن السياسيين، أو من يرون أنهم كذلك، من انتزاع مكان مؤثر على الساحة السياسية، بدلا من الدوران حول نفس البلاغيات التي أفقدت الطبقة السياسية فعاليتها، والتي جعلت الحراك الشعبي يطرد معظم قياداتها من التظاهرات. لست أعني بهذا دعوة لمبايعة الوزير الأسبق، لكنني أقول بكل تواضع إن إطلاق مبادرات جديدة، مهما حسُنت النوايا، هو أمر يستحسن تفاديه الآن، لأن مشكلة المعارضة كانت فشلها في تحقيق التوافق حول شخصية معينة تنتزع أوسع حجم من التعاطف الجماهيري ومن تفهم مؤسسات الدولة، ورسالة أحمد طالب تعطي فكرة عن واحدة من الاحتمالات المطروحة أمام الطبقة السياسية. ولعل هذا ما يمكن اعتباره استجابة لدعوة رئيس أركان القوات المسلحة لتفاعل النخب إيجابيا مع تطورات الأوضاع. الحلقة الثانية والأخيرة