ليس ثمة ما هو أصعب من محاولة قراءة، أو عرض، أو تحليل، كتاب عن موضوع تكون الجاسوسية جزءا من فعل حصاد المعلومات فيه. وذلك، لأن أي رواية عن التجسس المعاصر تأتي مع بطاقة تحذير تقول: لا يهم كم من المعلومات قد تسرب، فإن المؤلف لا يعلم كل الحقائق. إن المؤلف يعرف فقط ما يقال له من قبل الناس الذين لديهم مصلحة في اختبار حالات لم تحسم بعد. إذ لا أحد يتحدث لمصلحة الحقيقة، لأن المعلومات تقدم فقط لتعزيز الأجندة الوطنية، أو المؤسسية، أو الشخصية. وقد لا يعرف الذين يتحدثون كل الحقيقة، أنهم يفعلون ذلك، حتى لو أرادوا أن يخدموا المصالح المتعارضة فيها، خاصة في عالم التجسس. إذ إن في أي عملية استخبارية، يجب على الناس الذين يديرونها أن يعرفوا أن هناك عناصر لا يعلمونها. والمفتاح للنجاح، في المحصلة النهائية، هو التقليل من المخاطر المرتبطة بتلك العناصر المجهولة. ونعلم جميعا أنه في الأفلام فقط يموت العقل المدبر للعمل الجنائي في صراع بالأيدي. كما تلتهم النيران إمبراطوريته الشريرة، وينتصر الخير. والعالم الحقيقي، أو الواقع المعاش، يقدم عروضا قليلة لمثل هذه الانتصارات الباهرة،فالمعنى المراد إيصاله هنا، أن التاريخ مهما كان مكتوبا بشكل جيد، ومثير للاهتمام، إلا أنه قد لا يكفي لجذب القراء والناشرين، الذين هم في كثير من الأحيان مندفعون نحو زاوية العناوين الأخاذة. فعدم كفاءة الحكومة، والتستر، والخطر الوشيك، من الموضوعات الموثوق بها، لكنها يمكن أن تصرف النظر أيضا عن السرد المدعوم بقوة المعلومات، ودقة التحقيق، وحرفية المعرفة. وكر الجواسيس يأخذ كتاب السقوط: القصة الحقيقية لحرب وكالة الاستخبارات المركزية السرية على الاتجار النووي القراء إلى عمليات وكالة المخابرات المركزية السرية لاختراق شبكة خان (عبد القدير خان). ويطوف بهم في أجزائه الثلاثة وفصوله الاثنين والعشرين على أكثر من عشرين مدينة حول العالم، ويتغشى بعضها أكثر من مرة؛ بدءا بواشنطن وانتهاء بها، مرورا بغيرها في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وتوقف راتب في دبي، وتركيز مستمر على إسلام أباد. ويكشف خطط الوكالة اليائسة والمعيبة لتخريب البرنامج النووي لكل من إيران وليبيا. وفي مشاهد حية ومقنعة من التفاصيل، فإن الكتاب يصف كيف أن وكالة المخابرات المركزية جندت أسرة سويسرية من التجار النوويين للتجسس على خان والمساعدة في خفض أجزاء من عملياته. ويأخذ كولينز وفرانتز القراء أيضا وراء الأبواب المغلقة في القاعات المقدسة للسلطة في واشنطن وعواصم عالمية أخرى، حيث سجلا الوقائع الكيفية التي جندت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية، في وقت لاحق، كبار المسؤولين في إدارة بوش لحماية أصول وكالة المخابرات المركزية، عن طريق الضغط على الحكومة السويسرية لتدمير كمية هائلة من الأدلة وتعطيل المحاكمة المزمعة لفريق من عملاء الاستخبارات الأمريكية، الذين انتهكوا القوانين السويسرية. وأكثر من مجرد قصص التجسس المثيرة عالية المخاطر، فإن كتاب السقوط يدرس بعناية التكاليف الضخمة لأخطاء وكالة الاستخبارات المركزية، والفرص الضائعة لوقف انتشار تكنولوجيا الأسلحة النووية، قبل وقت طويل من إتاحتها لبعض أكثر الخصوم المتهورين والخطرين للولايات المتحدة وحلفائها. وفي جوهره، فإن هذا الكتاب يقف كتحذير رصين للمواطنين وصناع القرار في الولاياتالمتحدة، وجميع أنحاء العالم، من أخطار التستر على برامج الانتشار النووي. الحظ فقط هو الذي جنّبنا حدوث كارثة نووية حتى الآن، فإذا كانت معالجة الإخفاقات بمثل تلك الطريقة التي رويت في كتاب السقوط، وإذا كان القتال لمنع الانتشار النووي لا يصبح الأولوية رقم واحد لحكومات العالم، فإنه في حكم المؤكد أن الحظ لن يحالفنا في تجنب الكارثة يوما من الأيام. وبالرغم من موقف المؤلفين من هذه الإخفاقات، لكن تحقيقاتهما المستمرة والمقابلات مع مصادر في أجهزة الاستخبارات ومخبريهم الأساسيين قدمت تفاصيل إضافية وملاحظات، وبينت كذلك قصص النجاح الكبرى لوكالة الاستخبارات المركزية، مثل تجنيدها لأسرة تينرز (الأب والأبناء)، أخدان خان وشركائه السويسريين. فقد مكنت المعلومات، التي قدمتها أسرة تينرز، المخابرات الأمريكية والبريطانية من الكشف عن عمليات خان في أوروبا ودبي وماليزيا. وقد تعرف المؤلفان على الجهود، التي بذلها هذان الجهازان لاختراق وتفكيك تلك الشبكة، وكيف أنهما استطاعا بمهارة تغيير المخططات وتخريب المعدات المخصصة لزبائنه، واعتراض شحنة من مكونات نووية حيوية متجهة إلى ليبيا، سلمتها طرابلس طوعا لواشنطن فيما بعد. وعلى الرغم من أنهما معجبان بنجاح وكالة الاستخبارات المركزية، إلا أن المؤلفين لا يزالان يوجهان النقد لفشل أمريكا في تفكيك شبكة خان بصورة أعجل مما كان. ففي رأيهم إن خان كان قادرا على سرقة الأسرار، وأخذت اتصالاته وتجواله في السوق السوداء وقتا أطول بكثير، مما كان ضروريا. وقد انتقدا أيضا ما وصفاه بأنه تستر صممته واشنطن في وقت لاحق فقط لمنع الجمهور من معرفة كيف أن انتصار مخابراتها كان مشوّها. شبكة خان إن باكستان وكوريا الشمالية، وربما إيران والدول النووية الجديدة، تدين بالكثير لعمل رجل واحد، عبد القدير خان، الذي خلق شبكة عالمية للحصول سرا وبيع القدرة على صنع القنبلة النووية. في البداية، كرس جهوده على وجه الحصر لجعل باكستان دولة نووية، لكن وبدافع الجشع والكراهية الشديدة للولايات المتحدة، سرعان ما أصبح موردا عالميا للدراية والمعرفة بالأسلحة النووية والمعدات المتخصصة اللازمة لصنع قنابل ذرية. ووصف المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تعتبر الوكالة الدولية المتخصصة للأمم المتحدة في شأن الطاقة النووية، شبكة خان السرية باعتبارها وول مارت النووية، في إشارة ذات دلالة لشركة بيع التجزئة الأمريكية، التي تعد أكبر متجر في العالم من حيث الإيرادات. لقد علم المسؤولون في وكالة الاستخبارات المركزية أنه ليست لديهم سوى طلقة واحدة لإغلاق متجر الشبكة. وفي حالة حلقة خان النووية، ماذا سيفعلون إذا كان بعض المجهول الرئيسي موجودا، أو إذا غاب عنهم زبون رئيسي، أو فقدت شحنة ضخمة من التكنولوجيا القاتلة، التي كانوا يأملون أنها ستكون نصرا استخباريا كبيرا، يمكن أن يتحول إلى مصدر لإنهاء الحرج. غير أن استمرار الشبكة كل هذا الوقت أصبح شهادة أخرى على سلسلة العمليات الفاشلة، التي أقعدت وكالة المخابرات المركزية على مر السنين. وأسوأ من ذلك بكثير، هو الفشل في عدم تحديد ووقف بلد آخر، أو حتى منظمة إرهابية، من الحصول على الوسائل اللازمة لصنع سلاح ذري سيكون خطرا هائلا على الأمن العالمي. وذلك من شأنه أن يسهم أيضا في عودة محتملة لحلقة الانتشار النووي، التي تأمل وكالة الاستخبارات المركزية في القضاء عليها، دون أن تستطيع. وبالرغم من أن الكثيرين في أجهزة الاستخبارات لا يتفقون مع تأكيدات الفشل هذه، إذ غالبا ما تكون حجتهم أن هناك توترا دائما بين الحاجة إلى اتخاذ إجراءات، والحاجة إلى جمع المزيد من المعلومات، إنه مأزق كلاسيكي للاستخبارات، فقد كانت شبكة خان مؤسسة معقدة تطلبت عقودا لتجميعها. وهكذا استغرق الأمر وقتا للذين هم خارجها لفهم كل أبعادها. وأي عمل غير ناضج كان يمكن أن يعطل مؤقتا فقط، وقبل الأوان، واحدة من مجسات عمليات خان، بدلا من توجيه ضربة إستراتيجية لها. فالشبكات بطبيعتها أكثر مرونة، ومن الصعب قتلها، ولم تفلح التحقيقات والتحذيرات السابقة للعديد من رفقاء خان في توقفهم عما يقومون به. وحتى اليوم، فإن غالب الذين ارتبطوا بسوق خان السوداء النووية، بما في ذلك خان نفسه، ما يزالون أحرارا، ومسؤولو المخابرات ما تزال لديهم وجهات نظر مختلفة حول متى كان ينبغي أن تسدد الضربة الإستراتيجية، لهذا، تحدى المؤلفان تأكيد مدير المخابرات السابق جورج تينيت أن الولاياتالمتحدة تحركت في اللحظة الأمثل، وحتى مع الاستفادة من الإدراك المتأخر، فمن الصعب معرفة ما كان يمكن أن يحصل بالضبط. الحقيقة المخيفة إن أي إنسان لا بد أن يشعر بالقلق إزاء انتشار الأسلحة النووية أو المهتمين بعالم التجسس أو الراغبين في معرفة الإستراتيجيات الكونية، سيرغب في قراءة كتاب الصحفيين المحققين كاثرين كولينز، مراسلة الشؤون الخارجية السابقة لصحيفة شيكاغو تريبيون، ودوغلاس فرانتز، مدير التحرير السابق للوس أنجلوس تايمز ومراسل نيويورك تايمز. إن الجديد والمثير، الذي صدر تحت عنوان: السقوط: القصة الحقيقية لحرب وكالة المخابرات المركزية السرية على الاتجار النووي، يحكي قصة قد تبدو إذا جردناها من ملامح الخطر الكامن في حقائقها رائعة ومشوقة؛ جاء أشخاصها مباشرة من روايات التجسس ليمثلوا أدوارا غاية في الدرامية، وشديدة الخطر. فكتاب السقوط يمكن أن يقرأ مثل رواية تجسس مليئة بالأسرار والمفاجآت، لكن تفاصيلها هي الحقيقة المخيفة. وكأول إبلاغ موثق عن معدل الأخطاء التي ارتكبتها وكالة الاستخبارات المركزية، والسوء في ملاحقة مهربي الأسلحة النووية الذين روجوا وقدموا الإرشادات إلى الدول الأكثر خطورة في العالم. قبل تشكيل الحل؛ إذا كان هناك واحد من شأنه أن يكون فكرة جيدة لمعرفة كيف حصلت هذه الفوضى الكبيرة في العالم. لقد وضع كولينز وفرانتز، اللذان وثقا في كتابهما السابق المجاهد النووي الذي صدر في عام 2007، الكثير من التفاصيل المدهشة والوثائق المهمة في هذا الكتاب، وحققا في كيف أن العالم النووي الباكستاني المعروف عبد القدير خان خلق سوقا نووية سوداء في العالم. وكانت الجهود، التي بذلتها وكالة الاستخبارات المركزية والاستخبارات البريطانية لاختراق وتفكيك شبكة خان هي موضوع كتاب السقوط، الذي صدر بمثابة نوع من التكملة لكتاب المؤلفين السابق الجهادي النووي، والذي كررا فيه، بالضرورة، بعضا من مادة الكتاب الأول نفسها. وتبدو عودة كولينز وفرانتز إلى حكاية هذا الموضوع من جديد في السقوط، والتحقيق في هذه القصة الواقعية لعالم الجاسوسية، جزءا من حملة تحذيرية، إذ ركز المؤلفان هذه المرة على مشاركة وكالة المخابرات المركزية في عمليات التستر الضخمة لمنع الكشف العلني عن دورها السلبي في أنشطة خان لنشر الأسلحة النووية. فقد وضعت وكالة الاستخبارات المركزية خان تحت المراقبة المستمرة سنوات، لكن بدلا من الانتقال إلى إغلاق البازار النووي الخاص به، ظلت وكالة المخابرات المركزية وصانعو السياسات يشاهدون ويناقشون كيف ومتى يكون الفعل. ولأكثر من ربع قرن غضت فيها وكالة الاستخبارات المركزية الطرف، فإن شبكة عالمية متداخلة يديرها خان قد باعت المعدات والخبرات اللازمة لصنع أسلحة نووية إلى مجموعة من الأمم المارقة، وكان من بين عملائها المعروفين، كما يقول الكتاب، إيران وليبيا وكوريا الشمالية. وعندما اتخذت الولاياتالمتحدة إجراءات متأخرة لوقف هذه الشبكة في أواخر عام 2003، أعلن الرئيس جورج بوش نهاية للشكل المؤسسي للشبكة العالمية ليكون نصرا كبيرا للاستخبارات، التي جعلت العالم أكثر أمنا: حسب زعمه، لكن، وكما وثّق كولينز وفرانتز ببراعة، فإن الادعاء بأن عملية خان قد تم تفكيكها يمثل حالة كلاسيكية من عمل القليل جدا بعد فوات الأوان. كانت حلقة خان قد باعت، في ذلك الحين، إيران هذه التكنولوجيا، لجعل طهران على حافة بناء سلاح نووي. ونشرت في العالم أيضا أخطر الأسرار النووية، التي يمكن تخيلها، الأسلحة المتطورة والتصاميم والمخططات لمحطات لتخصيب اليورانيوم، وخطط لصنع رؤوس حربية؛ وجميعها للبيع لمن يدفع أعلى سعر. وبالاعتماد على معلومات جديدة متفجرة تم جمعها في مقابلات حصرية مع المشاركين الرئيسيين لم يعلن من قبل، ووثائق سرية للغاية، يكشف المؤلفان الحقيقة وراء الجهود الضخمة التي وضعتها وكالة الاستخبارات المركزية لإخفاء المدى الكامل للضرر الذي قامت به شبكة عبد القدير خان، وللتستر على الفشل الفادح لوقف البازار الذري في وقت مبكر بكثير مما صار يهدد الأمن القومي الأمريكي اليوم. لقد توصل كولينز وفرانتز إلى استنتاج أن وكالة المخابرات المركزية مدمنة للمعلومات وليس العمل. وعندما انتقلت الوكالة أخيرا إلى طي صفحة حلقة خان العالمية، سعت لإخفاء النكسات العملية والإجرائية والأحكام الخاطئة التي سمحت للحلقة بالازدهار لسنوات. إن انتشار الأسلحة النووية هو واحد من قضايا العصر الحرجة، وعرض كولينز وفرانتز يقدم إسهاما في الوقت المناسب لكيفية أن الأخطاء المؤسسية والدعوة السيئة في واشنطن قد جعلت أمريكا أكثر عرضة للإرهاب العالمي. الخاتمة لا جدال في أن هذا الكتاب يمثل محاولة لكشف الحقائق الغامضة، ومهما كان رأي القراء في كيفية معالجة المؤلفين للموضوع، أو كم من المعلومات التي يجب أن نأخذها على أساس أنها يقينية، فإن هناك بعض القضايا المثيرة للاهتمام التي تتمثل في استعراضهما للجغرافيا السياسية لهذا الزمان. ولمن لديهم بعض المعرفة عن التكنولوجيا النووية، فليس هناك الكثير من المعلومات الجديدة أو التفاصيل التقنية المفيدة، ولكن هذا ليس حقا القصد من الكتاب. لقد انتقد المؤلفان الوكالة لرؤيتها للعالم ليس كما كان، لكن كما يريد له ضباط الحالات والجواسيس أن يكون. وربما، أو لنقل دون أي شك إن العدالة كان يمكن أن تُخدم على نحو أفضل إذا كان خان، وجميع من كان له حلف معه، مسجونين في زنزانة عميقة وفقا للكتاب..! لكن في عالم اليوم، القوانين الناظمة للتكنولوجيا الحساسة ليست كافية والمحاكمات صعبة. إذ يمكن أن تكشف المحاكمات عن معلومات حساسة وتعرض عمليات الاستخبارات الجارية للخطر، وتعتبر المصالح الوطنية والتجارية للدول الأخرى ورقة رابحة تزيد من المخاوف الأمريكية من انتشار الأسلحة النووية، فالكتاب يقول إن الأوغاد الجدد سينشؤون حتما.والدراية والمعرفة الخطيرة والمواد النووية ستكون مرة أخرى موجودة للعرض، وسوف يتواصل التجسس، وستسعى الوكالة لحماية المصادر القديمة، وستعمل على تجنيد مصادر جديدة، لتواصل مسيرة الفشل والنجاح. ولأنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد وصف المؤلفان مقابلة واحدة، كانت من المؤكد محبطة، حيث جلسا مع عميل وكالة المخابرات المركزية الموهوب، الذي جند المخبرين الحساسين داخل شبكة خان، فتهرب من الإجابة عن كل الأسئلة التي وجهاها له، ثم غادرهما تاركا لهم قصاصة من الورق كتب عليها: إن أهم جزء من القصة هو ذلك الجانب منها الذي لا تعرفانه. إلا أن الشيء الوحيد المؤكد أن كولينز وفرانتز سوف لن يفتقرا لموضوع لكتابة مجلدات أخرى في المستقبل. وإن القراء يتطلعون بشغف إلى ما سيكتبان.