صرّح وزير العدل حافظ الأختام بلقاسم زغماتي في مجلس الأمة قبل أيام قائلا: «إن الجزائر لها قدرات جبّارة ولكن لم نحسن استغلالها كان ينقصنا الرأي». فأردت أن أبني مقالتي على كلامه، من وجهة نظري، وما يعنيه بكلمة ينقصنا الرأي ففهمت منه جانبًا واحدًا يتمثل في العلم ولا شيء غير العلم . فوجدته مصيبًا إلى حدٍ بعيد في كلامه هذا، والحق يقال أن للجزائر علماء وخبراء ومفكرين من الطراز العالي، ولكن لم تستغل خير استغلال بل دُفع بهم في السنوات السابقة إلى البحر ليأكلها الحوت أو إلى البلدان الأخرى بعدما لم يجدوا من المسؤولين آذانا صاغية وقلوبا واعية لأفكارهم ومقترحاتهم؛ ففضلوا الهجرة إلى بلدان أخرى تُثمّن وتحترم ما يحملونه من أفكار وإبداعات، وتهتم بالبحوث والابتكارات من شباب العالم أجمع دون النظر إلى أي فوارق قد تكون في الديانة أو الأعراق وغيرها، بل تستغلهم لتطوير مختلف قطاعاتها. وحسب التقرير الذي أعدّته جامعة الدول العربية سنة 2010، أشارت بأن الجزائر تُعد من بين الدول العربية التي حصل فيها هجرة من علمائها ومفكريها نحو الخارج، وتقول الإحصاءات إن 250 ألف متخصصا وعالما في مختلف المجالات خارج البلاد. وفي المقابل نجد أن القنوات التلفزيونية المحلية والعربية والرأي العام الجزائري يشغلون تفكيرهم في كيفية استرجاع الأموال المنهوبة الموجودة في البنوك العالمية، والتي قدرت ب 300 مليار دولار، وبعضهم الآخر يشغل فِكره بلاعبي كرة القدم الذين يلعبون في أندية أوروبية قصد استجلابهم والإفادة منهم في الفريق الوطني، في حين لم يذكر أحد من هذه القنوات التلفزيونية ضرورة العمل على استرجاع هذه الأدمغة، والتي عانت من التهميش في السنوات القليلة الماضية التي بها تُبنى الجزائر في كل المجالات. وأكثر من ذلك، لم نجد في برامج المرشحين للانتخابات الرئاسية الماضية من يضعون سياسة تُعنى بالأدمغة الجزائرية التي في داخل البلاد وخارجها، ووضع مخططات فعالة قصد استغلال واسترجاع هذا الكنز المتناثر هنا وهناك. أسباب الهجرة عديدة ومنها: أولًا: سوء التسيير من الإدارة: فبدلًا من أن يُعين الدكاترة والعلماء والمفكرون في مختلف هياكل وجامعات التعليم العالي، وجدنا مسؤولين صرحوا أمام شاشات التلفزيون بكلام لا يقوله من ذاق حلاوة العلم والتعلم، قال: «ماذا تجني الجزائر من نيل طلابها جائزة نوبل!»، وكما قيل: فاقد الشيء لا يعطيه. فمثل هذا المُصرح وغيره لا يرجى منه الكثير؛ لأنه بعيد عن العلم بعد المشرقين وكما قيل من جهل شيء عاداه. ثانيًا: احتقار العقل الجزائري من طرف المسؤولين الجزائريين أنفسهم، فلو كُنت أعلم الناس وشهد لك العالم كله بأنك ضليع في العلم والمعرفة، وتُدرّس مؤلفاتك في العالم الشرقي أو الغربي وتحظى باحترام كبير في الأوساط العلمية العالمية تجد ضد هذا كله من بني بلدك، ويصلح فيه قول القائل: مزمار الحي لا يطرب. ثالثًا: حالة الفقر والبؤس مع ضعف المرتبات التي عانت منها عائلاتهم؛ دفعت بهؤلاء النخبة إلى التفكير في الهجرة، وذلك بعد إغراءات كبيرة من الدول المتقدمة تصل إلى عشرات المرات ضعف الراتب الذي كان يتقاضاه في الجزائر، وهذا الوضع المزري دفع بأهل الباحث لتشجيعه على الهجرة، وألفيت بعضهم الآخر قد طبق البيت الشعري: وإذا رأيت الرزق عزّ ببلدة وخشيت فيها أن يضيق المكسب فارحل فأرض الله واسعة الفضاء طولا وعرضا شرقها والمغرب رابعًا: التعيينات والترقيات في مؤسسات الدولة كانت تتم عن طريق المحسوبية والوساطة والرشاوى ممّا ضاق به ضرعا ذوي الأدمغة. خامسًا: عدم توفير الحكومات السابقة التسهيلات اللازمة، والدعم بشتى أنواعه لهؤلاء حتى يتسنى لهم البحث في ظروف ملائمة، ولم تُناقش أصلًا مشاريع مخترعاتهم ومبتكراتهم التي استخف بها المسؤولون سواء جهلًا أو تجاهلًا على النظر باهتمام بالغ في مقترحاتهم، وهذه المشاريع لما أُرسلت إلى الدول الأخرى رحّبت بها واستقبلت واحتضنت هذه الابتكارات، دون أي تردد ولو حظيت واهتمت الجزائر بها لكنا ربما في أحسن حال. وبما أنّ الجزائر على أبواب استحقاقات هامة ومرحلة مفصلية في تاريخها الذي يصنع مستقبلها، فعلى رئيس الجمهورية القادم وحكومته أن يضع نُصب عينيه السعي في تطوير المجال العلمي للجزائر، ويركز على العلم والعلماء والعمل على وضع خطط استراتيجية تخولنا الإفادة من العلماء الذين في أرض الوطن واسترجاع الذين هم خارجه أو الإفادة منهم عن بعد، ونقول: لقد آن الأوان للطيور المهاجرة أن ترجع إلى أوطانها معززة مكرمة، وهذا بتعهد الرئيس القادم بالاهتمام بطيورنا المهاجرة، والتركيز على المصالحة الوطنية مع العقول الذكية لأن الشعب الجزائري أسهم في انجاح المصالحة الوطنية الداخلية بالوئام المدني، وهذا كله بالتركيز على العناصر التالية: - الإهتمام أكثر بالبحث العلمي من خلال مضاعفة الميزانية المخصصة له، وذلك حتى يتسنى للعلماء والباحثين العمل في مخابر بلادهم بكل حرية وبمجهود أكبر حتى نستطيع اللحاق بركب الدول المتقدمة. - خلق مناصب شغل محترمة تكون من اختيار الباحثين أنفسهم في مجال تخصصاتهم. - توفير مساكن مريحة ومرتب يقرب أو يضاهي ما كان يتقاضاه في تلك البلاد التي كان فيها، وتأمين صحى له ولعائلته وامتيازات كبيرة لكل ابتكار أو اختراع. - الإعفاء من الخدمة الوطنية عن الشباب المبتكر وهذا لأنه في خدمة وطنه من الناحية العلمية التكنولوجية. - وضع تسهيلات لهؤلاء وفسح المجال أمامهم للاستثمار الخاص في الجزائر وتسهيل تمويل مشاريعهم بحثهم من البنوك الجزائرية دون أي فوائد والمضي قُدمًا نحو تطوير الصناعة في البلاد. - إنشاء هياكل تنسيقية في الخارج تعتني بالباحثين الجزائريين والتكفل بانشغالاتهم، وكذا ربطهم بالجامعات والمعاهد الوطنية. - خلق جو تنافسي علمي بين المبتكرين في البلاد بالإغراءات والتحفيزات المالية سنويًا حتي يصبح تقليدا وطنيًا وهدفًا يصبو إليه كل ذي علم. - حرية الوصول إلى المعلومة والتنقل داخل الوطن وخارجه لهؤلاء من أجل كسب المعرفة ونشر العلم من جهة أخرى، وذلك من خلال حضور الملتقيات والدورات العلمية. ومجانية التذاكر في وسائل النقل كافة إذا كان الغرض من هذا السفر هدفا علميا بحتا. - إعداد مجلات ودوريات علمية يشرف عليها هؤلاء النخبة. حماية الباحث الجزائري من الإغراءات والضغوطات والمخابرات الأجنبية التي تترصدهم سواء بالنفع أو بالضرر. - إنشاء أقطاب علمية وطنية وأخرى جهوية. ولهذا الغرض، يعمل الرأي العام الوطني كله بالتنقيب في دول العالم عن هؤلاء العباقرة وتكثيف الجهود قصد التودد لهم لكي يعودوا إلى بلادهم لأنها في حاجة ماسة إليهم أكثر من أي وقت مضى. وفي حالة رفضهم لهذه المقترحات والتسهيلات الموضوعة، تتحذ إجراءات صارمة قاسية ضدهم منها: التغريم الذي قد يصل إلى نصف مرتباتهم التي يتقاضونها أو سحب الجنسية الجزائرية منهم؛ ويُعدون أجانب يلزمهم تأشيرة للدخول إلى أرض الجزائر وعلى وزارة الخارجية وضع استبيانات من ضمنها التعهد بنقاط هامة منها العودة إلى أرض الوطن متى احتيج إليهم. ونقول في الأخير: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. الجزائر بمدارسها وجامعاتها كانت معلمًا لكم فكيف تهجر أرضك بلا عودة وكيف تأمن شر هذه الدول. وكما قال الشاعر : إنّ العدو وإن تقادم عهده فالحقد باق في الصّدور مغيب وقال: لا تؤمن الدهر الخؤون فإنّه مازال قِدما للرّجال يؤدب