كثيرٌ من النّاس حينما يبدأ في الالتزام يبدأ نشيطًا ذا همَّةٍ عالية، تراه محافظًا على الصّلوات في جماعة، مصحفُه في جيبه لا يكادُ يُفارقُه، نشيطًا في الذِّكْر والدعوة وطلب العلم، واصلًا للأرحام، مُتَّبِعًا للجنازات، مُطبِّقًا لمعظم السُّنَن، تراه يبحث عن كلِّ خيرٍ كي يُصيبَ منه سَهْمًا. ومع كثرة الفتن وتعاقُبِها، وقلة مَنْ يُعين على الثبات خاصة في هذا الزمان، وانغماس كثير من الناس في الشهوات، تراه يضعُف ويفتُر شيئًا فشيئًا، وقد ينتقل من الفتور إلى الوقوع في معصية الله عز وجل والعياذ بالله، فيضطرب قلبُه، ويضيق صَدْرُه، وتبدأ حياتُه في التغيُّر والتحوُّل، فيشعُر بالضيق بعد السَّعة، يشعُر بالحُزْن والهَمِّ بعد ما كان فيه من سعادة وسرور؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ طه: 124، وقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ النحل: 97. يبدأ يشعُر بالفارق بين ما كان عليه في بداية الالتزام من سَعة، وراحة، وانشراح، وبين ما يُعانيه الآن من ضَنْكٍ، وهَمٍّ، وغَمٍّ. وقتها يبدأ في البحث عن وسيلة تُعِيدُه إلى سابقِ عَهْدِه، تُعيدُه إلى جنة الدنيا الموصِّلة إلى جنة الآخرة التي طالما اشتاق لها. هذه المشاعر يمرُّ بها كثيرٌ منا، لا يسلم منها سوى مَنْ عَصَمَهم الله عز وجل؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرةً، وَلِكُلِّ شِرةٍ فَتْرَةً»، وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». فمَنْ أصابَه هذا الشُّعور في يوم من الأيام، فعليه بهذه الوسيلة النافعة التي تُعينُه في الرجوع إلى طاعة الله عز وجل، والثبات عليها، وهي دعاء الملك سبحانه وتعالى. ولم لا؟ فالذي بيده تقليب القلوب وتثبيتها هو الله عز وجل؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ قلوبَ بني آدَمَ كُلَّها بين إصْبَعَيْنِ من أصابعِ الرحمنِ، كقَلْبٍ واحدٍ، يُصَرِّفُهُ حيث يشاءُ»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنا على طاعتِكَ». فنحن في حاجة إلى الدُّعاء، سواء كنّا على طاعة الله، أو سقَطنا في معصيته عز وجل، فانظر إلى الأنبياء والصالحين كيف عرَفوا هذا المعنى، وطلبوا من الله عز وجل الثبات بالدُّعاء. فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ إبراهيم: 39 -41. وهذا نبي الله يوسف عليه السلام يقول: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ يوسف: 101. وقال الصالحون الراسخون في العلم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ آل عمران: 8. فلا تكن أخي أعجزَ الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنْ الدُّعاءِ»، وأحسِن الظن بربِّكَ دائمًا؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ غافر: 60، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني». فاطلُب من الله الثبات على طاعته؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِر أن يدعوَ: «يا مُقلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبي على دِينِكَ». ولا تحمِل همَّ الإجابة، فإن الله حييٌّ كريم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كريمٌ، يَسْتَحِيي أن يَمُدَّ أحدُكُمْ يَدَيهُ إليهِ، فَيَرُدُّهُما خائبتَيْنِ». وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أنا لا أحمل هَمَّ الإجابة؛ ولكن أحمل هَمَّ الدُّعاء، فإذا أُلهِمْتُ الدُّعاء، فإن الإجابة معه. أسأل الله عز وجل لنا جميعًا الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسأله سبحانه موجبات رحمته وعزائمَ مغفرته، إنه سميعُ الدعاء، وهو أهْلُ الرجاء، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.