يرجع اختيارنا في الاشتغال على هذه المجاميع القصصية الثلاث، بحكم أنها متقاربة زمنيا وربما قد تمكّننا من الاطلاع على العوالم القصصية لهذا الكاتب، المتعدد الذي يغلب على اشتغاله هاجس الكتابة بالدرجة الأولى، حسب ما استقيناه من نصوص منتقاة من مجاميعه القصصية القصيرة: «نحت جديد لتمثال أسود، وتجاعيد آسرة، والمشي خلف حارس المعبد». مجاميع تم التركيز في الاشتغال فيها على مواضيع محددة من قبيل: الحلم بين الرمزية والدلالة، وجمالية التصوير داخل النص القصصي، وتنوع الكتابة بين التوليف، والأسطورة، والكتابة النفسية، والمشهدية، والمقطعية لنصوص بنهايات موجعة. لنتساءل بأية خلفية فنية وجمالية كتبت نصوص المجاميع المدروسة. 1 الحلم بين الدلالة والرمزية 1 الحلم المجهض يبرز الحلم كأحد التيمات البارزة داخل نصوص المجموعة، حلم تجسّد عبر تمظهر مختلف، ففي نص «بين الماء والماء» الذي يرصد من خلاله السارد رحلة مجموعة من «الحراكة» سرا من الجزائر نحو إيطاليا على متن قارب صغير يقول السارد «تلاقت سيقانهم..وعيونهم..انصهرت كعين واحدة ظلت مصوبة في اتجاه حلم واحد لا شيء سواه، وأي حلم؟». ويرصد السارد معاناة المبحرين في تداخلها مع حكايات أخرى يتم صهرها داخل بوتقة الميتاسرد أحيانا بتداخل بوليفوني للعديد من الأصوات «حكايات عبر هذه الأحشاء تفاعلت في بوتقة ذاكرة واحدة وهي الخروج من النص على المألوف». وتتداخل عوالم الحلم بالواقع لتكشف عن حيز مكاني صغير جدا، متحرك فوق الماء، وعن الأحاسيس الداخلية للعديد من المهاجرين السريين» إحساس غريب سيطر على مخيلتهم صورة قاتمة ومتشائمة: هل هذه النهاية؟ هل تبخرت الأحلام؟». وقبيل وصولهم إلى الهدف سيتم اعتراض قاربهم من طرف خفر السواحل الايطاليين ليعلو التساؤل كشفرة حلاقة تمزق صمت الليل «هل انتهى الحلم؟ هل انتهت حكاية مركب صغير مهترئ يعج بأربعين نفرا؟»، وهي لحظات سيتخذ فيها قرار مصيري لكنه قاتل بعد فرار «الحراكة» الذين سيطلق حراس خفر السواحل عليهم وابلا من الرصاص. تيمة الحلم المجهض ستتكرر في نص «سقوط أحلام اليقظة» الذي يكشف فيه السارد عن صورة بطل حديث التخرج من الجامعة سيصطدم بعوائق الاندماج المهني، فيقرر ولوج أحلام اليقظة فرارا من قسوة الواقع»، إذ لاحظت أن الكثير من الشباب مثلي مولعون بولوج بوابة أحلام اليقظة...أيقنت أني أصبحت مدمن..أحلام اليقظة»، وهي الصورة التي تقدمها اللوحة الأولى. في حين تشكل اللوحة الثانية محاولة تكثيف واقع أحلام اليقظة وما يتعرض له بطل النص من إكراهات خلال سعيه المحفوف بالإخفاق فاقترح عليه السارد طلب المساعدة» لم لا تطلب من أحلامك المساعدة ثم قفلت مسرعا من حيث أتيت وكلمات اللعين والشتم والوعيد تلاحقني..تلاحق شخصا مجهولا..لعن أحلام اليقظة». في حين تكشف اللوحة الثالثة عودة إلى الواقع «مهما حلمنا..مهما اخترعنا من أحلام سنبقى على هامش الحياة..مجرد أحلام اليقظة». 2 جمالية العوالم الحلمية سيعمل السارد على إدراج أكثر من حكاية داخل فضاء الحلم الفسيح، من خلال فتح مسارات سردية باذخة ابتدأت بالحوار مع أشعة الشمس،حوار وظف كمستهل للحلم داخل النص. «قد يكون إحدى حيلها لاصطيادي هي تعانق، وأنا أفارق..حتى أشبع ما لديها من ثروة جنسية شرهة لا تهدأ إلا بوقوفي بين ذراعيها». فضاء الحلم سيشكل سارية أساسية لبناء العالم القصصي، وتأثيثه بالملمح الأسطور يعبر تضمين حكاية «عين الفوارة» بتحولاتها وتطورات أحداثه الغريبة، ليتم الخروج من الحلم المجهض، نحو حلم آخر مرتقب لكنه لن يتغير في الواقع بقدر ما يتجدد بين نفي وإثبات «انتظرت آهاتي المحترقة لأبدأ من جديد حلما ليس كحلم عذراء عين الفوارة حلمي الجديد..هو عذراء عين الفوارة نفسها». 3 تمظهر الحلم المركب نلج عتبات الحلم المركب في نص «حلم داعشي» بحيث يأخذ تمظهرا مختلفا من خلال تقلباته العديدة. يقول السارد «رأيت فيما لا يراه نائم غيري». ومن خلال أطوار الرؤيا سيبدأ في تحديد مستوياتها «لم أستوعب كيف خطر لي أنني رأيت وجوها، فقد حطر لي أيضا..». ولعل هذا التراكب الحلمي سيمنحنا بناء عالم مفعم بالغرابة من خلال استفهام السارد عن مساره» ساورني شك مريب..هل هذا هو الشارع هو طريقي إلى العودة؟ لا أعرف..وهل يحق لي الهرب..؟ نعم أكيد...»، وفي خضم هذا الصراع بين الشك والاحتمال يقول السارد» خيل لي أنها أجساد تتحرك..» مع تحول نحو الرؤيا من جديد «فيما أراني أنا وأطفالي متناثرين قطعا قطعا». حلم داعشي رؤيا تتخذ زوايا التقاط عديدة، ومن عوالم مختلفة بين الواقعي والخيالي، والعجائبي حيث نلمس في النهاية إشارة غريبة» أسمع أحاديثهم في ما لا يسمعه نائم غيري»، وهو ما يحدد العودة لنقطة البداية «رأيت فيما لا يراه نائم غيري» و»ما لا يسمعه نائم غيري». بناء دائري من هذا القبيل يعري عن فظاعة حراس النوايا، وعن شماتة الناس العاديين في التقاطهم اليومي للأخبار دون تمحيص مما يجعلهم يمارسون الإسقاط بإطلاق الأحكام على عواهنها» صاحب السيارة داعشي..وقد استحق جزاءه». 4 الحلم إطار للنّص المراوغ وتتميز بعض النصوص بقدرتها على مراوغة القارئ كما هو الأمر في نص «حلم إغفاءة للبيع»، الذي يدفع بالقارئ نحو أقصى درجات التيه، عبر رسم الأحداث وفق تطور قد لا يستطيع المتلقي التملص من قبضته. لكون النص يستند على بناء درامي ينحو نحو تجريم البطل وإلصاق كل التهم به»، استغربت الأمر حين شاهدت والدي العجوز رفقة إمام المسجد يتقدمهم..هالة عظيمة من الذعر تصاحب خطواته..أمر عبر حركات يديه أنه يرجوهم الرفق بي وأحس بشفتيه تنطقان بهاته الجمل: قد حدث ما كنت أخشاه..فلعنة الكتابة والشعر أخذت به ماخذا». فالقارئ قد لا يزيغ تفكيره عن تجريم بطل النص، من خلال المشهد السابق، إلا أن ما سيلي من الأحداث سيعصف بالناء الأول لمصلحة بناء جديد والبطل يعلن استسلامه، والنص يلفظ أنفاسه الأخيرة معلنا تحوله نحو مسار مغاير «سمعته بوضوح تام هاته المرة، وأكيد أنتهم ايضا سمعوه معي: - قلنا لكم..لقد باعوها..». 2 جماليات التّصوير القصصي تكتسي بعض النصوص جمالياتها من خلال بنائها المشوق الذي يحمل في طياته الكثير من المفاجأة، فبين الأصل والصورة يمتد بون شاسع بحجم الدهشة المفعمة بسؤال قلق. طرحه البطل على المصور في نص «نيجاتيف»، «ونظراته لا تصدق ماهية ما تجسد على الصورة..غير معقول..هذا أنا..أين هو؟؟». دهشة ستحمل إصرارا آخر وتطلعا نحو التأكد بإجبار المصور على إعادة الكرة»، ثم تقدم بانفعال شديد نحو المصور ليجبره على الولوج معه إلى الغرفة السوداء، مذكرا إياه بحرص على إتقان عمله هذه المرة»، فالاشتغال على الصورة يشغل حيزا مهما في نصوص المجموعة لتصبح في نص «شفاه صغيرة» إطارا لسرد مستقبلي لأكثر من حكاية مستنبطة من واقع الشخوص الذين يوجدون في الصورة الجماعية التي أخذت بالمدينة. صورة كانت صلب حديث بين معلمة وصحفي حول حدث لم يذكره النص «أخذ منها الصورة تفحّصها..كانوا ثلاثين..وقبل أن يسألها مرة أخرى كانت قد غادرت نحو المباني المهدمة وهي ترقص». فالسارد لم يكشف عن النهاية الموجعة في النص إلا رمزا ومن خلال توظيف زمن الماضي» كانوا ثلاثين» و»غادرت نحو المباني المهدمة»، وبالتالي يتم فتح مسارات النص بالعودة نحو أحداثه الأولى التي كانت ترصد حالة الحبور ولفرح والنشوة الهستيرية التي تملكت التلاميذ قبل الحادث والجرأة التي تملكت بعضهم وهو يهمس في أذنها «نريد صورة جماعية لنا». في حين يجسد توظيف الصورة في نص «سلفي» الخيبة والامتعاض لكون ذاكرة الهاتف النقال الخاص بالبطل لم تستوعب صورتهم الوحيدة في لحظة اعتقدوا أنها حاسمة، وتاريخية، وغير قابلة للتكرار»تناسوا ما كانوا فيه قبل أن يأتي إرضاء لرغبته الجامحة..أصابتهم نشوة الأيام الخوالي..واستجموا». صورة السيلفي التي لم تتحقق كان بإمكانها أن تلم شمل عائلة مشتتة في لحظة حاسمة مليئة بالحبور، غير أن البحث عن بدائل لتحقيق الهدف سيكشف أن الصورة الوحيدة المتكررة هي صورة «إيلان» الطفل الصغير الذي جرفته المياه إلى الشاطئ غريقا». وهو ما سيعيد الأسرة إلى سيرها الأولى فظلوا»، واجمين..الأسى الفاضح..يرهق أعينهم الدامعة..تململوا طويلا ثم انسحبوا..لا أحد يشبه الآخر». 3 الملمح الجمالي في الكتابة القصصية 5 العتبة المظللة العتبات المظللة هي عتبات تدل على عكس ما يوحي به مضمون النص. عتبة لا يمكن الوثوق بها مطلقا، لأنك ستتيقن في النهاية، أنك كنت من بين ضحاياها، بعدما فرضت عليك العودة إلى نقطة البداية. كما في نص «وجه كرتوني» حيث لا يمكنك من أن تفرق بين الحالات المتعددة لبطل النص بشحوبه القاتل وقد أنهكت جسده وزمنه السجائر، والقلق، وهو في الحديقة رفقة طفلته التي كان مشغولا عنها بالتدخين، وهي تناشده أن يلعب معها أن يحملها «طفلتك الصغيرة تصر على التشبث بكم قميصك أن «احملني» تريدك أن تلعب معها»، وتبدو صورة البطل الصامت الحزين أشبه بتمثال في حديقة عمومية عير مبال بابنته»، ولا كيف أنك لم تنتبه إلى تأوهاتها وعبراتها المسكونة بالحيرة والدهشة». غير أن هذه الحالة سرعان ما سوف تعرف تحولا جذريا بأن وافق على اللعب مع ابنته «هذه المرة أنا ملك يمينك». وهي اللحظة التي داهمه فيها عدد من الأحداث الموجعة لأشخاص آخرين بين من فقد ابنته فجأة في حادثة سير، وبين من اغتصب طفولتها بتزويجها وهي قاصر. ولعل هذا الاسترجاع هو ما سيذكي أحداث النص وينفحها حياة جديدة من خلال تضمين قصة أحد اصدقائه، كان قد التقى به رفقة ابنته وأودع عنده دمية كان يعتبرها ابنة له، قبل أن يلقى حتفه في نفس اللحظة» يسألك أن تحفظ له ابنته الوحيدة يوصيك بأن تلعب ابنتك معها، وأن تلعب معها..وهو يودعك..قبل أن تدهسه حافلة نقل المسافرين العابرة». ولعل قفلة نص «أعمى الطريق (انتهى الدرس)» تعيدنا بالقوة نحو عتيبة النص لنفتح قوسا حول ما جاء فيها بين قوسين (انتهى الدرس)، وهو درس كان بليغا جدا من كون عماء الشخص المبصر هو اشد وطأ من عماء الشخص الضرير. عتبة تعيد بالقوة الحدث إلى بدايته من جديد بشكل دائري «طلب منه بأدب أن يعبر الطريق فهو أعمى كما يرى»، تصريح يجعلنا أمام عتبة مركبة من مستويين: مستوى ظاهري مثير للشفقة يقود بدون وعي نحو الإحساس الداخلي، الذي لا محيد عنه كسلوك خير لدى الأفراد. والمستوى الثاني الذي قد لا يعيره القارئ أدنى اهتمام هو ما تمت إضافته لعتية النص بتحفظ بين قوسين، والذي يشكل في نظرنا العتبة الرئيسية للنص التي ظل سؤالها عالقا، من يا ترى من بين شخصي النص من يجسد بالقوة دلالة العماء في الواقع، الأعمى أم المبصر؟ (يتبع)