قد شغل موضوع الشكل في الإبداع الشعري مجالاً واسعاً في السجالات التي كانت تدور حول الحداثة الشعرية وزادَ النقاشُ حدةً مع ظهور قصيدة النثر إذ تحفظ كثيرُ من النقاد على تسمية الكلام المجرد من الوزن بالشعر الحر، فبرأيهم أنَّ الوزن يغيبُ في بناء القصيدة دون الإلتزام بما سنهُ روادُ الشعر الحديث من أسس جديدة في تركيبة الشعر. غير أن أدونيس قد أعلن رؤية مغايرة لمفهوم الشعر حيث يؤكدُ أن تحديد الشعر بالوزن هو تحديد خارجي وسطحي قد يناقض الشعر لأنَّه تحديد للنظم تدعمُ خالدة سعيد حسب ما أورده جابر عصفور في كتابه «رؤى العالم» رأي صاحب «أغاني مهيار الدمشقي» إذ تضعُ ما نشره محمد الماغوط بعنوان «الحزن في ضوء القمر» في خانة الشعر، موضحةً صعوبة هذا النوع من الشعر بعكسِ ما يعتقدهُ المعارضون حيثُ تستبدلُ فيه العلاقات الداخلية بين الكلمات والعبارات بالعلاقات الخارجية لقوالب الأوزان والقوافي ومن الواضح أنَّ مجلة شعر بما نشر على صفحاتها كان لها دورُ كبير في دعم هذا الاتجاه الشعري، كما أن المبادرة لترجمة نصوص شعرية لسان جون بيرس وإيف بونفوا وجاك بريفر وأنتونان أرتو ،قد أسست لإنطلاقة شعرية مُختلفة فأصبحَ ما يهمُ الشاعر ليس الشكل أو الثورة على العروض والأوزان والقوافي بقدر ما أراد الثورة في التعبير على حدّ قول عبد الوهاب البياتي طبعاً قد ارتبط مصطلح قصيدة النثر بآرثر رامبو، وبودلير وترجع نشأتها إلى الشاعر الفرنسي لويس برتران وفق مايشير إلى ذلك جابر عصفور. إعلان شعري تأخذ قصيدة النثر من الشعر شعريته التي لا تنحصر في الوزن ومن النثر طلاقته التي لا تتقيد بالعروض وتستمدُ تميزها بإيقاع داخلى وكثافة وجدانية وعفوية في التعبير ويعتقدُ الشاعر اللبناني شوقي بزيغ أنَّ مصطلح قصيدة النثر هو التعبير الأمثل عن زواج الشعر والنثر وعن الإمكانيات الشعرية الهائلة التي يختزلها هذا الأخير بين تضاعيفه. والطريف في الأمر أنَّ الأسبقية في كتابة قصيدة النثر تسجل لمحمد الماغوط مع أنَّ الأخير كتب نصوصه بعيدا عن الصخب والملابسات في التعريف والتنظير ولم يطلعْ على مبادئ قصيدة النثر كما سنتها سوزان برنار إذاً المرادُ «بشكل شعري جديد»، هو قطيعة جمالية مع التقليد كما أن الجدة ليست في الوزن بذاته ولا في النثر بذاته بل هي في طريقة المقاربة وفي طريقة استخدام اللغة. وهذا ما أوضحه أدونيس في سيرته الشعرية «ها أنت أيها الوقت» وبدوره قد أطلق «أنسي الحاج» عبارة اللانهائية في القول الشعري، وهذا يعني التحرّر من الأشكال المسبقة والمواصفات الجاهزة. يذكر أنَّ ما كتبهُ صاحب «ماضي الأيام الآتية» في مقدمة مجموعته الشعرية الأولى «لن» يعدُ إعلاناً لنوع مختلف من الشعر. ولم يعد الشاعرُ مراهناً على أدوات بالية وجاهزة حسب تعبير «أنسي الحاج» إنما يجبُ أن يكون البحثُ والخلقُ ركناً أساسياً في إستراتجيته، لذا يقولُ عبد الوهاب البياتي في «تجربتي مع الشعر» ليس من المعقول أن أتجمدَّ أو أتوقف عند أشكال فنية إنما عليَّ أن أتجدد باستمرار من خلال عملية الخلق الشعري». ويمضي صاحب «الوليمة» أبعدَ في كسر قوالب تقليدية عندما يدعو إلى توظيف أدوات النثر من سرد واستطراد ووصف وذلك لا يتطلبُ سوى تمكنَّ الشاعر من الإرتقاء بهذه الأدوات ويجعلها داعمةً لغايات شعرية ما يعني أنَّ عملية الخلق الشعري لا تنفصل عن الإنزياحات وخلق لغة جديدة داخل اللغة والتحرّر من الأداتية بحيثُ تكتسبُ المفردات وظائف مُتجددة في سياق النص الشعري. والملفت في تجربة «أنسي الحاج» هو عدم الركون إلى الكليشيهات والقوالب المُصاغة على مقاس الإتجاهات الآيدولوجية، ونجح في تطويع اللغة وشحنها بالإيحاءات إذ يصدمُ القاريءَ بشراسة عباراته وتهكمه المُتأتى من معارضته للأنساق اللغوية السائدة وهذا ماتراه في «الغزو، ونشيد البلاد، وحوار» المنشورة في «لن». فالمشهدُ الذي يقدمهُ أنسي الحاج في «حوار» يذكرك بأجوبة نينا المرتجلة لآرثر رامبو، حيثُ يتداخلُ الحب والقسوة لدى الإثنين يقول صاحبُ «فصلُ في الجحيم» ضاحكة لي أنا الشرس من نشوة، أنا من يأخذك هكذا من الضفيرة الجميلة، أوه التي ترشف. وتلمح هذه الشراسة لدى أنسي أيضاً «أفكر في الشمس التي أذابتك، وفي جلدي الذي خضعك،أفكر في حبي الذي ركعكِ ثم ملَّك يا حبيبتي أفكر في المراثي يا حبيبتي أفكر في القتل»، فضلاً عن ذلك يتقاطع أنسي الحاج مع رامبو في نظرته للعلاقة القائمة بين الموت والحب يرى خليل الخوري أن المحبة أخت الموت لدى آرثر رامبو ويقولُ أنسي الحاج الحبُ عندي واسع جدا فهو الموت. «كلّ قصيدةٍ هي قَلْبُ الحبّ، كلّ حب هو قلبُ الموت يخفق بأقصى الحياة.» الأنوثة السرمدية اللغة والصيغات المتجدّدة والحذاقة في سبك الجملة الشعرية والتوتر المبثوث في النص كلها عناصر أساسية في مغامرة أنسي الحاج الإبداعية، غير أن مستوى حضور المرأة في عالمه ورؤيته العميقة لكينونتها قد أضفت فرادة لنصوصه بحيثُ عندما تقرأُ «الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع» أو «ماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلت بالوردة» يتخيل إليك بأنَّ أنسي الحاج مقتنعُ مثل الشاعر الألماني «غوته» بالأنوثة السرمدية التي تأخذنا إلى الأعلى فالمرأةُ في نصوص أنسي الحاج ليست وسيطاً يمررُ من خلاله الشاعر رسالته بل هي روح مُتغلغلةُ في الوجود وجسدُ يكتنزُ بالمعنى تنبعثُ منه الرغبة في التجدّد هي الحياة الحقيقية لذلك يناشدُ العالم بمنحه الوقت والعمر لينتظر حبيبته كما يريد الإقامة في جميع لغات العالم ليسمع حبيبته نداءه و يتوغلُ الشاعر في قصيدته «حتى السعادة»، في تفاصيل جسد المرأة حيثُ تلتقي في مدارها المعرفة واللذة ولا يختزل دور المرأة في بعدها الجمالي إنما هي تصحح الحياة وتصحح الطهارة وما يبلغُ إليه التوتر والعاطفة في قصيدة «أغار»، ناهيك عن الموسيقى المتولد من التكرار يزيدُ من شحنة العبارات لدرجة ينساق القاريءُ مع تيارها الجارف. فالخطيئة الوحيدة برأي أنسي الحاج هي اللاحب إذاً تنتظمُ الحياة وتتحرّر من طبقاتها المزيفة مع المرأة يقولُ صاحب «كان هذا سهوا» في إحدى حواراته «أنا في البدء والختام شاعر حب» يعتبر عبد القادر الجنابي بأنَّ أنسي الحاج لاغيره جدير بأن يكون شاعر الحب الحديث بإمتياز. ونحن بصدد الحديث عن أنسي الحاج يجبُ الإشارة إلى أنّ نصوصه على المستوى الأسلوبي تعتمدُ على صيغة إنشائية «الإستفهام، الأمر ، النداء» خصوصاً في «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» و»الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» وذلك يكشف صدقه العاطفي وشدّة إنفعاله إضافة إلى مجموعاته الشعرية صدر لأنسي الحاج كتاب «كان هذا سهواً» و»خواتم» حيث جرب كتابة الشذرات الفائضة بدلالات فلسفية وأسئلة وجودية على غرار ماقدمه هيراقطلس ونيتشه،وظيفة الشاعر لدى أنسي الحاج لا تقتصر على كتابة شيء جديد إنما يجبُ أن يكون لديه حلمُ بتشكيل بشرية جديدة وفي ذلك يشترك مع صاحب «هكذا تلكم زرادشت» في الحلم بولادة انسان جديد.