ديوان: «متى يكون الموت هامشا للشاعر العراقي «أنمار مردان» في قراءةٍ متأنيةٍ وباستمتاع قرأتُ ديوان (متى يكون الموتُ هامشاً..؟) للشاعر أنمار مردان، طباعة دار الفرات للثقافة والإعلام بابل/ العراق، سنة 2019م، عدد أوراقه «90» ورقةً، و»22» نصاً في النثر. وأثّثتُ القراءة كالآتي: أولاً/ عتبات النّص: لعنوانات نصوص الديوان مزيةٌ يتفرّد بها عمّا سواه من دواوين، حيث احتوى الديوان على (22) عنواناً ل (22) نصّاً، فضلاً عن عنوان الديوان المستل عن عنوان نص، وهنا نجدُ الشاعرُ قد همّشَ، وهشّمَ مقولةَ الناقد الفرنسي(رولان بارت) التي تقول: «العنوان ثريا النّص»، فليس بالضرورةِ أن يكونَ العنوانُ دالاً لفحوى النّص، أو دالاً لمتن القصة أو الرواية، فعنوانات الديوان تسوحُ بك ولا تحيلك لمبتغى النّص ومرماه، بل تجعلكَ تبحثُ في ثنايا كلّ مقطع، بل يكادُ النّص أن يكونَ ومضةً أحياناً. ومن عنواناته: «متى يكون الموتُ هامشاً؟»، «النهرُ الذي ودّعني توّاً.»، «الحربُ عند رمق الثلج»، «نصوصٌ ملوّثةٌ جدا»،.. ثانياً/ صورة الموت في الديوان: ما إن تلجَ كهوفَ ودرابينَ الديوان تصطدمُ بصور الموت وايحاءاته في معظم نصوصه، بدءًا من عنوان الديوان حتى منتهاه، بل لنقل من الغلاف الى الغلاف، وهو الشعور والاحساس الذي يظل مسيطراً عليك، كيف لا والشاعر مستغرق في حياةٍ وعالمٍ لايبعثُ ولا ينتجُ إلا الموت. بدءًا من العنوان يظلّ الموتُ متناً والحياةُ هامشاً، «متى يكونُ الموتُ هامشاً؟»، وصورة العبور للحياة الأخرى كما يصوّرها في عنوان: «متى أحملُ صراطي المستقيم؟»، ويأتي الموت بصورة حذف الذات في قوله: «بعدَ حذفي»، وصورة جنديّ مجهول «لا تكتبوا شيئاً على قبري»، ثم يبتكرُ الشاعرُ صورةً أخرى يأخذها من حالة التصوّف، ومن حالة العشق الحلاّجي حينما يصرخُ «أنا سيّدُ الموت»، ثم يتحوّلُ الشاعر في صورةٍ سريالية ليرسم الموت فيقول: « فالموتُ بركةٌ سمينةٌ»، ويطوي الحزن، كما هو «الجوكر» لينشرَ الفرح رغم كل الأسى والدمار وبرومانسية عاشق يدعونا فيقول: «ونزورُ القبورَ بابتسامةٍ»، هي أوجهٌ مختلفةٌ يجعلنا الشاعرُ نستشعرها، ولا يجعلها في قالب واحد، أو أسلوبٍ وألفاظٍ مكرورةٍ، بل أحياناً يجعلنا لا نملّ من مسايرته وسط تابوت أو في مقبرة، صورٌ تتجلى فيها صلابة الشاعر وعدم خوفه باللقاء المحتوم بل يسطّره ويتغنّى بأوجهه وصوره التي شكّلها . ثالثاً/ السؤال في الديوان: الديوان مزدحمٌ بالأسئلة، لا يخلو نصٌّ من سؤال، وقد قارب عدد الأسئلة الأربعينَ سؤالاً، والأسئلةُ لها أجوبةٌ أو مفاتيحُ في ذات المقطع أو النّص، ولعل في الأغلب الأعم، أسئلةٌ يُرادُ بها استفزاز المتلقي، واطلاق صافرة انذار، أو بعضها أسئلةٌ إنكارية، أو يراد بها السخرية، وأمور ومعانٍ وضعها الشاعر عن قصد. فقد تكرّرت الأسئلة باستخدام حروف وأسماء الاستفهام كما أحصيتها: «متى / 6 مرات»، «منْ/ 8 مرات»، «لماذا/ 3مرات»، «ما/ 3 مرّات»، «ماذا/ 2 مرّتان»، (هل/ 2 مرتان»، «أيّ/ 5 مرات»، «كم/ 1 مرة واحدة»، «»أين/ 1 مرة واحدة». ومن هذه الأسئلة: «منْ يعزفُ بعدي؟»، «كمْ هو طويلٌ هذا العناقُ القصير؟»، «منْ سيدفعُ لي ثمنَ هزّتي القديمة؟»، «لماذا نضعُ إعلانات الموت في وجوهنا؟»، «هل للأرضِ ظلٌ نحيف؟».... رابعاً/ الأنا/ تتضخّمُ «أنا»المتنبي في نصوص الشاعر، فقد صاحبتْ «أناهُ» صوره ومقاطعه، «أناهُ» التي ينزّهها عن الآخر، وعن الكون، فيصوّرُ نفسه هو ولا آخر بعده» وأنا أدوّنُ أيّ اخضرار»، «وأنا أرى وجهي»، «وأنا سيّدُ الموت»، «أنا رسالةٌ نصّيةٌ للأمشاج»، «أنا ضحيّةُ اللهِ القادمة»، ثمّ يصوّرُ «أناه» الطُهر والعري والرغبة والعذابات، «وأنا أراودهُ بطهارة»، «وأنا أحاورُ الدفء»، «أنا ظلّ النائمين»، «وأنا أتذيلُ لذّتي عُرياً»، وهو الخطأ والجوع، «أنا كلّ أخطاء الأرض»، « أنا أكبرُ المطارات جوعاً»، وهو اللذةُ والشهوةُ والحرام، «وأنا أرغبُ بقصيدةِ جسمِه»، «أنا رجلٌ مخمور»، «أنا مومسٌ بزغت عمرها في نحتِ الحانات»، «أنا سيءٌ مفقود»، «أنا مدينةُ الحرامُ المغلونة»، وهكذا تتنوع «أنا» بالصورة التي يؤثثها بحسب موضوع النّص أو المقطع، فيرتدي أقنعةً لكل حال. خامساً/ الموروث في الديوان: حشّد الشاعرُ في نصوصه العديدَ من النصوص والإشارات من الموروث «القرآن، الحديث، الأشعار، الأمثال، الحكم، المأثور...»، حيث تلاعب بالألفاظ ونحتها وغيّر فيها وأبدل وأحلّ ألفاظاً عليها كي يستقيم النص في ذاته وفق ما يراه هو، واستخدام الموروث يعني وجود الكم من الخزين المعرفي لدى الشاعر الذي يسخّرهُ في بناء نصوصه، ويتصرّفُ في انتقاء ما يريد وفق موضوعه، وهاك مثلاً: «أيتها النّفس الرافضةُ أرجعي» وهي إشارة الى آية في «سورة الفجر/89، الآية:27»، و»بدايةٌ لنهايةٍ أكلَ الدهرُ ثلث جوعها وقفز.»، وهي إشارة إلى مثل (أكل الدهرُ عليهِ وشرب)، و( أنا أراودهُ بطهارة)، وهي إشارة إلى» سورة يوسف/12، الآية 23)، و(كلّ نفسٍ ذائقةُ النوم)، إشارة إلى (سورة آل عمران/3، الآية: 185)، (قبلَ حانةٍ وثلث)، وهي مأخوذة من (قبل ساعةٍ وثلث)، و(أنا غايةٌ في نفسِ صعلوك) وهي إشارة إلى «سورة يوسف/ 12، الآية 68»، و قوله: «لقلتُ لكِ إنّي بكِ/ بعدَ اللهِ أعتصمُ ...» وهي إشارة إلى قصيدة «العلم» للشاعر جميل صدقي الزهاوي «عش هكذا في علوٍ أيها العلمُ...»،... وهكذا الكثير، تجدهُ مبثوثاً في نصوص الديوان، أضافت للنصوص جمالاً وتأويلا وفكراً. وفي الختام/ ديوانُ شعرٍ مائز، يضيف للمشهد الثقافي الحلي باتجاه التجديد والحداثة، ولم ينحُ الشاعر في تقليد أو تكرار تجربةٍ، بل نأى بنفسه ليكونَ هو، وظلّ متمرداً على اللغة والشكل والمعنى، ومنح للموت صوراً جديدةً متفردةً، ولا تشعر بالملل في متابعتك صفحاته، وكانت لغته واستخدام اللفظ في نصوصه متقنةً، وفي الديوان نصّ جميل أعتبرهُ «جمجمة الديوان» هو النّص الأخير الذي يحتاج وقفةً لوحده بعنوان: «رجلٌ من محنة الضوء» سأقف معه قريباً، تحيةً إلى شاعرنا «رجل الضباب» حسبن مردان.. شكرا لشاعرنا الجميل «أنمار» وهو يتحفنا بجديده وإبداعه.