لقد جاء النصر الذي يحتفل به الجزائريون اليوم، بفضل نضال مرير وتضحيات جسام، كانت نابعة من إيمان عميق بفكرة راسخة هي الاستقلال التام لكلّ التراب الجزائري. هو ما لخّصه شاعر الثورة مفدي زكريا ببراعة فائقة، في أجزاء من قصيدة الألف بيت «إلياذة الجزائر»، لخّص فيها جوهر انتصار ثورة التحرير: النصر ثمرة تضحيات شعب أبيّ، وثبات ميداني، ومفاوض قويّ، وتوفيق ربّاني. يلخّص مفدي زكريا ببراعة الظروف التي سبقت مفاوضات إيفيان، وكيف كان المدّ والجزر في المواقف بين الثوار والاستعمار نوعا من السّجال والمناورات، حسمه الميدان والنضال المتواصل، وإصرار الجزائريين وثباتهم على مواقفهم، رغم كل محاولات الترهيب والترغيب، وهو ما ينطلق من روح الثورة وجوهرها. وفي ذلك يقول مفدي زكريا: «أتى أمرنا صارخًا فانطلقنا ولُذْنا بوحدتنا فانعتقنا وفاوضَنا القومُ في أمرنا وأمْرِ سيادتنا … فرفضنا» ومن المحاولات الاستعمارية التي باءت بالفشل، الاستفتاء الذي اقترحه غي موليه، وبعده مقترح الاستقلال الداخلي مع إبقاء التبعية لفرنسا، وجاء الردّ على هذه الاقتراحات بمواصلة الثورة، التي كانت هي خيار الشعب الجزائري ونتيجة اقتراعه الوحيدة: «وقالوا: سنُجري عليها اقتراعًا بلا ونعم خدعة فاعترضنا فرنسا … تناسيتِ ما ليس يُنسى أمَا في نوفمبر … كنا اقترعنا وأجرى علينا الرصاص انتخابًا وخضَّب أوراقنا فانتخبنا؟ وقلنا وقالت لنا الكائنات خذوا حِذْركم وأثبتوا فثبتنا فلم نكُ نرضى بنصفِ الحلول ولا بالدومنيون نحن انخدعنا» وهكذا كان الأخذ والردّ بين الجزائر الثائرة وفرنسا الاستعمارية بمواقف ثابتة صريحة من الأولى، ومناورات وأنصاف حلول من الثانية، ولم يخلُ ذلك من العمل الاستراتيجي البعيد عن السذاجة، والأشبه بلعبة مصيرية على رقعة شطرنج، يحرّك كلّ طرف فيها جنوده، على أمل أن يقع خصمه في الفخّ، وفي هذا السياق اندرجت هدايا فرنسا المسمومة. وانتهى الأمر بأن انقلب السحر على الساحر، ونجد ذلك مصوّرا ببراعة في الأبيات التالية: «وديغول ألقى بيادقهُ فطاولها رُخُّنا فانتصرنا وخاف الحواجز تحمي الغلاةَ وتبكي فرنسا لها فضحكنا» وفي هذا البيت الأخير إشارة إلى الحواجز التي أقامها غلاة المعمرين بشوارع العاصمة سنة 1958 مع عصابة لاقابارد، وفي هذا يقول مفدي زكريا في قصيدة أخرى في ديوانه: «اللهب المقدَّس»: «وترى الغلاة على السدودِ جواثمًا تحمي النساء على السدود رجالها!» وبالعودة إلى إلياذة الجزائر، يواصل مفدي بأفكار متسلسلة تسلسل الأحداث والوقائع، دون إطناب أو تكرار، ويخلص في قصيدته إلى ما خلصت إليه الأمور حينذاك، وهو الانطلاق في مفاوضات إيفيان، بعد الإشارة إلى مقولة ديغول الشهيرة «لقد فهمتكم»، وهو ما نجده في البيت الأخير من هذا الجزء من الإلياذة: «وفكَّر ديغول في حمقهم وفي صدْقنا … ثم قال: «فهمْنا» وكانت النتيجة هي النصر، بوقف إطلاق النار في 19 مارس، ثم الاستفتاء واستقلال الجزائر التام في الخامس من جويلية 1962، وهو ما يصوّره مفدي في القصيدة الموالية مباشرة، بصور شعرية فائقة الجمال، تعكس في نفس الوقت، وبشكل مباشر وصريح، كيف أن استقلال الجزائر جاء بفرض إرادة الشعب الجزائري، وبقوة السلاح وتضحيات الشهداء، وحينما تتحالف هذه القوة والعزيمة الميدانية مع براعة التفاوض و»الحجّة القاطعة»، يكون النصر لا محالة: «فرضْنا إرادتنا الفارعهْ ولم تَخبُ، نيرَانُنا الدالعَهْ وصُغنا مصَائرنا بالرصَاصِ وبَالرَّأي، والحجَّة القاطعَهْ» وبعد التفاوض المدعوم بالإصرار والثبات على الأرض، كان الانتصار تكريسا لمشيئة إلهية، فلولا التوفيق من الله ما كان الخلاص، وما دوّى النشيد الوطني الجزائري في سماوات العالم إلى يومنا هذا: «وتمَّت بهَا كلماتُ الإله التي وقعت باسمهَا الواقِعَهْ ولاحَ الخلاص، بحُلم الليَالي تُرَفرف أعلامُه اللامعَهْ ودَوَّى نشيدُ الجَزائر يغزو الدُّنا، قسَمًا بالدِّمَآ الناصعَهْ» ولم يبخل مفدي زكريا على مختلف فئات الشعب بالثناء، من النساء والطلاب والمقاتلين والعمّال والمزارعين، بل وأكثر من ذلك، كان إبّان الثورة قد نظم للعديد من فئات الجزائريين نشيدا يخلّد نضالاتها، وهو ما يعود إليه في هذه الأبيات: «وجَلجلَ صَوتُ نشيد اللواء فتعنو الرؤوسُ له خاشعهْ وجيشٌ يُردِّد: هَذي دمَانا ال غَوالي دَوافِقُهَا دَافعَهْ ويَصدَح طُلَّابُنا بالنشيد وعُمَّالُنا، واليدُ الزارعَهْ وبنتُ الجزائرِ تتلو نشيدَ ال عَذارى، فتصغى الدُّنا راكعهْ» ومن هذه الأناشيد التي نظمها مفدي، والتي نجدها في ديوانه: «اللهب المقدس» نذكر: النشيد الوطني (قسَمًا)، نشيد العلم (عَلم الجزائر، عشتَ يا علم)، نشيد جيش التحرير (هذي دمانا الغالية دفَّاقة)، نشيد طلاب الجزائر (نحن طلاب الجزائر، نحن للمجد بناة) نشيد العمال الجزائريين (نحن جند الاتحاد والعمل)، ونشيدٌ لبنت الجزائر (أنا بنت الجزائر)، وكل هذه الأناشيد مع نشيد بربروس ونشيد الشهداء وغيرها نُظِمَت في بربروس أيام الثورة التحريرية. وبعد معارك الثورة التي أتت بالاستقلال، حان موعد معركة من نوع آخر، معركة التشييد والبناء وممارسة السيادة والحفاظ عليها، وذلك بسواعد الفئات سابقة الذكر، ولطالما كان البقاء في القمّة أصعب بكثير من الوصول إليها، وهو ما يلخّصه آخر بيت في هذه القصيدة: «وقمنا نُشيد صَرح البلادِ ونبني سيادتنا الطالعهْ شَغَلْنا الورى، ومَلَأْنا الدُّنا بشِعرٍ نُرتِّله كالصَّلاة تسابيحهُ من حَنايا الجزائر». لقد جاء النصر الذي يحتفل به الجزائريون اليوم، بفضل نضال مرير وتضحيات جسام، كانت نابعة من إيمان عميق بفكرة راسخة هي الاستقلال التام لكلّ التراب الجزائري. ولولا الصدق والإخلاص لذهبت التضحيات ودماء الشهداء التي قدّمت «قرابين» لتحقيق النصر هباءً، وهو ما يصوغه مفدي في مطلع قصيدة أخرى من الإلياذة: «وقالت جَزائرنا الغاليهْ هُو الصدق، حَقَّق أماليهْ ومِن دَم شعبي، وأكباده إلى النَّصر، قدَّمتُ قربانيهْ» ومن هنا يتجلّى كيف أن النصر، الذي نحيي ذكراه اليوم، لم يتأتّ إلّا بالثبات، والتضحيات التي بذلها جزائريون صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدّلوا تبديلا.